إغلاق قناة “الحرة”: دلالات وتداعيات

إغلاق قناة “الحرة”: دلالات وتداعيات
كتب د. وائل بدوى
أثار قرار الكونغرس الأمريكي بإغلاق قناة “الحرة” جدلاً واسعًا في الأوساط الإعلامية والسياسية، حيث تأتي هذه الخطوة بعد نحو عشرين عامًا من إطلاق القناة، التي كانت تُعد منصة رئيسية لنقل وجهة النظر الأمريكية إلى العالم العربي. الإعلان المفاجئ عن إغلاق القناة ومنح موظفيها مهلة 30 يومًا قبل التنفيذ، دون توضيح الأسباب الحقيقية أو تقديم بدائل واضحة، يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية لهذه الخطوة والتغيرات المحتملة في الاستراتيجية الإعلامية الأمريكية الموجهة إلى الشرق الأوسط.
منذ انطلاقها عام 2004، كانت قناة “الحرة” إحدى أدوات القوة الناعمة الأمريكية، حيث ركزت على تغطية الأحداث العالمية، وخاصة تلك المتعلقة بالسياسة الأمريكية، وهدفت إلى تقديم خطاب إعلامي يعزز قيم الديمقراطية وحرية التعبير، وفقًا لما كانت تعلنه إدارتها. وقد شكلت القناة، رغم الانتقادات التي واجهتها، مصدرًا للأخبار والمعلومات لشرائح واسعة في المنطقة العربية، لا سيما في القضايا ذات الطابع الأمريكي. ومع ذلك، لم تكن القناة بمنأى عن الجدل، إذ تعرضت لانتقادات حادة، سواء من الحكومات العربية التي رأت فيها أداة للتدخل في شؤونها الداخلية، أو من المشاهدين الذين اعتبروها وسيلة للدعاية الأمريكية أكثر من كونها منصة إخبارية مستقلة.
إغلاق القناة يأتي في سياق توجه أمريكي متزايد نحو تقليص الإنفاق على وسائل الإعلام الممولة من الحكومة، وهو ما بدأ بالفعل خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كان قد أصدر قرارات مماثلة طالت عددًا من المؤسسات الإعلامية المدعومة حكوميًا، بدعوى إعادة توجيه الميزانيات إلى أولويات داخلية أكثر أهمية. ولكن، في ظل غياب تصريح رسمي يوضح خلفيات هذا القرار، يظل السؤال مطروحًا حول ما إذا كان الإغلاق مجرد خطوة اقتصادية أم أنه يعكس تحولًا أعمق في الاستراتيجية الإعلامية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
من زاوية أخرى، فإن تأثيرات هذا القرار تتجاوز مجرد فقدان وسيلة إعلامية، إذ يحمل أبعادًا تتعلق بالعلاقة بين الإعلام والسياسة في الولايات المتحدة، وكذلك مدى استمرار اهتمام واشنطن بالتأثير على الرأي العام العربي من خلال القنوات التقليدية. فمع انتشار وسائل الإعلام الرقمية وتغير أنماط استهلاك الأخبار، قد يكون هذا القرار جزءًا من تحول نحو استراتيجيات أكثر حداثة تعتمد على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الجمهور المستهدف، خاصة في ظل الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في تشكيل المحتوى الإعلامي وتوجيهه.
لكن في المقابل، لا يمكن إنكار أن إغلاق القناة يفتح الباب أمام فراغ إعلامي قد تسعى جهات أخرى لملئه، سواء من خلال منصات عربية أو دولية منافسة. فقد استفادت قنوات أخرى، مثل “الجزيرة” و”العربية”، من غياب منصات إعلامية دولية منافسة ناطقة بالعربية لتعزيز مكانتها، وهو ما قد يتكرر في هذه الحالة. كما أن بعض الدول التي تمتلك أجندات إعلامية خاصة في المنطقة، مثل روسيا والصين، قد تجد في هذا الإغلاق فرصة لتعزيز وجودها الإعلامي، من خلال منصاتها التي تخاطب الجمهور العربي بزاوية مختلفة عن الرؤية الأمريكية التقليدية.
على الصعيد الداخلي، فإن إغلاق “الحرة” قد يثير تساؤلات حول مستقبل الإعلام الممول حكوميًا في الولايات المتحدة، وما إذا كان القرار مقدمة لتقليص أوسع في الإنفاق على مؤسسات إعلامية أخرى، مثل “صوت أمريكا” وغيرها من المنصات الممولة حكوميًا. وإذا كان السبب الرئيسي وراء القرار هو تقليص النفقات، فإن ذلك يعكس توجهًا جديدًا في السياسة الأمريكية يُفضل الاستثمار في وسائل بديلة للوصول إلى الجماهير بدلًا من دعم قنوات تقليدية ذات تكاليف تشغيلية مرتفعة.
في النهاية، سواء كان إغلاق القناة قرارًا اقتصاديًا، أو سياسيًا، أو جزءًا من تحول استراتيجي في الخطاب الإعلامي الأمريكي، فإن تأثيراته ستظل موضع تحليل ونقاش خلال الفترة المقبلة. فقد كان لـ “الحرة” دور مهم في تشكيل السرد الإعلامي الأمريكي تجاه العالم العربي، وإغلاقها قد يشير إلى إعادة هيكلة أوسع في أدوات الدبلوماسية الإعلامية الأمريكية، أو ربما إلى تراجع الاهتمام الأمريكي بالتواصل المباشر مع الجمهور العربي عبر الوسائل التقليدية.