تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي واحتفالات شم النسيم: بين تقنيات العصر وجذور الحضارة

الذكاء الاصطناعي واحتفالات شم النسيم: بين تقنيات العصر وجذور الحضارة

كتب ا. د. وائل بدوى

في لحظة فريدة من كل عام، تحتفل مصر بيومٍ يعبّر عن البهجة، التجدد، والعودة إلى الحياة، في تقليد يعود إلى آلاف السنين: شم النسيم.

لكن ما الذي يمكن أن يجمع بين هذا العيد التاريخي العابق برائحة الفسيخ والزهور، وبين أحدث ما توصّل إليه العصر: الذكاء الاصطناعي؟

قد يبدو الجمع بينهما غريبًا للوهلة الأولى،

لكن حين نُمعن النظر في جوهر كل منهما، نكتشف خيطًا خفيًا يربط بين ماضٍ صنعته حضارة عظيمة، ومستقبل يقوده عقل إلكتروني فائق التطور.

شم النسيم: عيد مصري بطعم التاريخ

شم النسيم ليس عيدًا دينيًا، بل هو عيد مصري خالص،

بدأ في عصور الفراعنة، حيث كان يسمى “عيد شمو”، أي عيد بعث الحياة،

واحتفل به المصريون القدماء في الاعتدال الربيعي، حين تتساوى ساعات الليل والنهار، إيذانًا بولادة موسم جديد.

وكان الاحتفال يتضمن:

• الخروج إلى الحدائق والنيل،

• أكل البيض الملوّن رمزًا للخلق،

• الأسماك المملحة (الفسيخ) التي كانت تُعدّ طقوسيًا قبل العيد،

• البصل الأخضر لطرد الأرواح الشريرة،

• الخس كرمز للخصوبة والصحة.

واستمر المصريون في الاحتفال بالعيد، عبر عصور القبطية والإسلامية وحتى العصر الحديث، كأحد أبرز رموز الهوية الثقافية المستمرة.

الذكاء الاصطناعي يدخل النزهة

اليوم، ونحن نحتفل بشم النسيم في عام 2025،

دخل الذكاء الاصطناعي (AI) ساحة الاحتفال بشكل غير مباشر، لكنه محسوس:

• تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحدد أفضل أماكن الخروج حسب الزحام وحالة الطقس.

• خوارزميات التسوق الذكي تعرض لك “عروض شم النسيم” من السوبرماركت الأقرب إليك.

• برامج الذكاء الاصطناعي تقترح وصفات فسيخ وسردين أقل ملوحة وأكثر صحية!

• حتى أدوات تعديل الصور والواقع المعزز تساعدك تلوّن البيض افتراضياً وتنشره على إنستغرام.

والأطرف:

الذكاء الاصطناعي يستطيع الآن كتابة قصائد شعرية عن الفسيخ،

أو إنتاج صور خيالية لشم النسيم الفرعوني وكأنك كنت هناك!

مفارقة جميلة: ماضٍ زراعي يلتقي بمستقبل رقمي

شم النسيم هو عيد مرتبط بدورة الطبيعة، الزراعة، الفيضان، والخصوبة.

بينما الذكاء الاصطناعي هو ثمرة الثورة الصناعية الرابعة، المعتمدة على البيانات والخوارزميات.

لكن الرابط بينهما هو الإنسان:

ذاك الذي بحث عن معنى للحياة في الزهرة والنيل…

ثم بحث عن التقدم في البرمجة والتعلّم الآلي.

فالاحتفال الحقيقي ليس فقط بالخروج أو الأكل،

بل بقدرة الإنسان على الحفاظ على جذوره وهو ينظر إلى السماء المستقبلية.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن “يشم” النسيم؟

سؤال شاعري… إجابته “لا” طبعًا،

لكن يمكنه أن يتعرّف على البهجة من صورنا، والألوان من بيضنا، والضحك من تسجيلاتنا.

لكن الذكاء الاصطناعي لن يعرف أبدًا طعم الفسيخ الحقيقي، ولا لحظة لمّة العيلة، ولا إحساس النسيم لما يلف وشّك وأنت قاعد على النيل.

فالذكاء الاصطناعي ليس بديلًا… بل أداة

من المهم أن نفهم أن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا لثقافتنا،

بل هو أداة بإمكاننا استخدامها لحفظ تراثنا، وتوثيق عاداتنا، ونقلها للأجيال القادمة بأساليب أكثر إبداعًا.

تخيل مثلًا:

• توثيق وصفات شم النسيم الشعبية بلهجات المناطق المختلفة عبر التعلم الآلي.

• بناء متحف افتراضي تفاعلي يعرض كيف كان يحتفل المصريون القدماء بعيد “شمو”.

• تطوير تطبيق يستخدم الذكاء الاصطناعي ليروي للأطفال حكاية شم النسيم بأسلوب حواري بصوت نطق مصري أصيل.

هذه ليست خيالات، بل مشاريع واقعية يمكن أن تصبح جزءًا من استراتيجية التحول الرقمي الثقافي في مصر.

الهوية المصرية الرقمية تبدأ من تفاصيل صغيرة

أن نكتب عن الفسيخ بلغة الذكاء الاصطناعي،

أن نصنع فلتر شم نسيم على منصات التواصل،

أن نحول البيض الملوّن إلى رمز NFT رقمي…

كل هذا لا يُلغي شم النسيم، بل يثبّت حضوره في عالم سريع التغيّر،

يجعل أطفال الغد يعرفونه كما عرفه أجدادهم…

بطريقتهم الخاصة، وبلغتهم، وبأدواتهم الجديدة.

في النهاية…

شم النسيم عيد يعلّمنا أن البهجة لا تفنى، بل تتشكل.

والذكاء الاصطناعي، مهما تطور، سيظل في حاجة إلى إنسان يمنحه المعنى.

فلنستمتع بالهواء، ونأكل الفسيخ،

ولنستخدم الذكاء،

ولكن… لا ننسى أبدًا أن نكون “بشر”.

في الختام،

شم النسيم سيظل دائمًا يومًا مصريًا خالصًا،

يمثّل استمرار الحياة رغم صعوباتها، وتجدد الروح وسط ضجيج العصر.

فلنحتفل بتراثنا،

ولنستخدم أدوات المستقبل لخدمة هذا التراث، لا لطمسه.

وكل شم نسيم وأنتم بخير… والفسيخ بالليمون والذكاء!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى