دار الكتب المصرية: الذاكرة الورقية التي سبقت علوم البيانات بقرن ونصف

دار الكتب المصرية: الذاكرة الورقية التي سبقت علوم البيانات بقرن ونصف
كتب د. وائل بدوى
في 23 مارس من عام 1870، أصدر الخديوي إسماعيل أمره العالي رقم 66 إلى علي باشا مبارك، ناظر المعارف حينها، بإنشاء ما عُرف آنذاك بـ”الكتبخانة الخديوية”، في سراي مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز. لم يكن هذا القرار مجرد خطوة إدارية لحفظ الكتب، بل كان تأسيسًا لمؤسسة ثقافية تُعد أول مكتبة وطنية عامة في العالم العربي، وركيزة للنهضة الفكرية في مصر والمنطقة.
تأتي أهمية إنشاء دار الكتب في سياق الرغبة في حفظ التراث الفكري والعلمي للأمة، وتوثيقه وإتاحته للأجيال القادمة. كانت الفكرة شبيهة بمنظومة أرشفة ضخمة تنظم آلاف المجلدات والمخطوطات التي كانت مهددة بالتلف أو الضياع. ومثلما يُصمم علماء البيانات اليوم قواعد بيانات ذات بنية محكمة لتخزين المعلومات، وُضعت للكتبخانة لائحة داخلية، ونُظم فهرسي، وأُوكل الإشراف إلى علماء الأزهر لتبويب وتصنيف الكتب العربية والتركية والفارسية.
وقد بلغ عدد مقتنياتها عند التأسيس نحو 30 ألف مجلد، تم جمعها من المساجد، والأضرحة، والمدارس القديمة، لتشكّل نواة المعرفة الوطنية. ومنذ ذلك الحين، تنقلت دار الكتب بين مسميّات مختلفة (من الخديوية إلى السلطانية، فالملكية، وأخيرًا الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية)، ولكن بقيت رسالتها كما هي: صيانة الذاكرة الجماعية.
لو نظرنا إلى دار الكتب من منظور علوم البيانات المعاصرة، لوجدنا أنها كانت تمارس كثيرًا من مبادئ هذا العلم – ولكن بلغة عصرها. فهي تضم فهارس، وتصنيفات، وعمليات تجميع وتنظيف للمعلومات، وتتيح خدمات استعلام واسترجاع للباحثين – تمامًا كما تفعل أنظمة تحليل البيانات اليوم.
فدار الكتب – بمخطوطاتها، بردياتها، وثائقها، عملاتها، ولوحاتها – تُعادل في عالم البيانات الحديث ما يُعرف بـ Big Data، لكنها “بيانات نوعية” تتطلب التفسير التاريخي، والتحقيق العلمي، والفهم الثقافي.
أما مركز الترميم والصيانة، الذي أُنشئ عام 1974، فهو يشبه تمامًا مراكز حماية قواعد البيانات الحديثة من التلف أو الاختراق أو الفساد الرقمي. هناك تُعالج الكتب والمخطوطات كما تُعالج الملفات التالفة، ويتم تصويرها ميكروفلميًا، مثلما تُنقل البيانات اليوم إلى سحابات التخزين الرقمي.
لقد أدركت دار الكتب منذ نشأتها أن المعرفة لا تقتصر على مجرد الحفظ، بل تتسع لتشمل الإتاحة، والتفسير، والتحليل، تمامًا كما تفعل تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم، التي تستخرج المعاني من النصوص والصور والبيانات الضخمة. بل أكثر من ذلك، أدركت أهمية العدالة المعرفية؛ ففتحت أبوابها للجمهور، وأتاحت المخطوطات للباحثين، وسعت إلى التبادل المعرفي مع مختلف دول العالم.
وفي حين تنتمي علوم البيانات إلى عصر الحوسبة السحابية، فإن دار الكتب تنتمي إلى عصر الوعي الثقافي الورقي، لكنها لا تقل حداثة في مفهومها العميق. هي تقف عند تقاطع الزمن، بين الماضي الورقي والمستقبل الرقمي. وبينما تُحاول الشركات اليوم بناء محركات بحث ذكية، كانت دار الكتب – ولا تزال – واحدة من أذكى محركات البحث التاريخية في العالم العربي.
ولعل ما يلفت الانتباه أكثر هو أن دار الكتب المصرية، منذ نشأتها، تبنّت رؤية شمولية تتعدى مجرد الحفظ والتوثيق، فارتبطت بوظائف معرفية ومجتمعية كان من شأنها أن تصنع وعياً جماعياً. من خلال تجميع أوائل المطبوعات، والمخطوطات النادرة، والبرديات، والوثائق، والمسكوكات، والصور التاريخية، مارست الدار دور “الراصد” الثقافي والذهني للأمة، في الوقت الذي لم تكن فيه مفاهيم مثل “تحليل البيانات التاريخية” أو “النمذجة الثقافية” قد وُلدت بعد.
وبينما تُستثمر اليوم الملايين في إنشاء قواعد بيانات ضخمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، كانت دار الكتب تمارس – على طريقتها – ذكاءً ثقافياً لا يقل فطنة: إذ حرصت على بناء شبكات تعاون دولي مع مكتبات العالم، وسعت لتوثيق الحياة العلمية والأدبية في مصر والعالم العربي، كما أنشأت آليات لتصنيف الموضوعات، وأدوات ببلوجرافية للضبط الاستنادي، تمامًا كما تُبنى اليوم الـ ontologies و metadata schemas في علوم البيانات.
الاختلاف بين دار الكتب وعلوم البيانات لا يكمن في الوظيفة، بل في الوسيلة. فالدار تعتمد على الرف والجلد والمخطوطة، بينما علوم البيانات تعتمد على الـ cloud والبايت واللوغاريتم. لكن في الجوهر، كلاهما يسعى للغرض ذاته: فهم الإنسان من خلال ما يتركه خلفه.
وإذا كانت دار الكتب تنتمي لعصر كان فيه الإنسان يكتب ليُخلد، فإننا اليوم في عصر يُحلل فيه الإنسان ليُفهم. وإذا كانت الدار تحفظ ذاكرة الأمم بالحبر والورق، فإن علوم البيانات تحفظها بالخوارزم والرقم.
وهنا تكمن المفارقة الجميلة:
أن ما بدأه الخديوي إسماعيل قبل 150 عامًا بدافع حضاري عميق، يتحول اليوم إلى نموذج تقني متقدم نستخدمه نحن — ولكننا لا نزال نحتاج إليه بروحه لا بأدواته فقط.
فكما لا يمكن أن نبني وطنًا بلا ذاكرة، لا يمكن أن نرسم مستقبلاً بلا وعي نقدي لتلك الذاكرة.
ولذلك، فإن دار الكتب ليست مجرد مبنى أثري، بل هي “أداة تنبؤ” ثقافية — تشبه النماذج التنبؤية في علم البيانات — تساعدنا على فهم كيف وصلنا إلى هنا، وإلى أين يمكن أن نذهب.
في زمن تغيب فيه الثوابت، تبقى دار الكتب صرحًا ثابتًا، لأنها لا تسعى لسبق الزمن، بل لحفظ روحه. وفي عصر يعج بالمعلومات دون معنى، تقدم لنا هي المعنى الكامل للمعلومة.
قد تكون أدواتنا قد تطورت، ولكن الدافع البشري بقي كما هو: تخزين المعرفة، وتنظيمها، واستخدامها لبناء الحاضر وصياغة المستقبل.
وهكذا، تبقى دار الكتب المصرية، في عمقها ووظيفتها، أمًا روحية لعلوم البيانات في مصر – سبقت عصر الخوارزميات بمئة وخمسين عامًا، ووضعت حجر الأساس لفكرة أن كل أمة تعي ذاكرتها… تملك مستقبلها.
فهل آن الأوان أن نُدرّس علوم البيانات بجوار المخطوطات، وأن نُعيد اكتشاف دور “أمناء المعرفة” كما فهمه الأجداد؟
قد تكون الخوارزميات أسرع، لكنها تفتقد الحكمة التي صاغتها دار الكتب… في صمتٍ مهيب.
تنويه – صوره أرشيفيه لمقر دار الكتب