غير مصنف

الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية

الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية

بقلم: ا.د. وائل بدوى – إشارة إلى تقرير Nature المنشور في 20 مايو 2025

في وقت تتسابق فيه القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين، نحو التسلّح بنماذج الذكاء الاصطناعي العملاقة، يبرز الجنوب العالمي – بقياداته البحثية ومؤسساته الناشئة – كلاعب جديد ومؤثر يسعى لكسر احتكار الهيمنة الرقمية، وبناء أدوات ذكاء اصطناعي تعكس واقعه الثقافي واللغوي، وتلبي احتياجات مجتمعاته.

هذا التحول الاستراتيجي، الذي سلّطت عليه الضوء مجلة Nature المرموقة في عددها الصادر بتاريخ 20 مايو 2025، يكشف عن موجة من الابتكارات تقودها دول من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، تتحدى بها مركزية “وادي السيليكون”، وتعيد رسم خرائط القوة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي.

من جوهانسبرج إلى الرياض: الثورة تبدأ من الأطراف

في جنوب إفريقيا، طوّر باحثون نموذجًا لغويًا صغيرًا يحمل اسم “InkobalM”، مدرّب على خمس لغات إفريقية، في محاولة لتجاوز الانحيازات الغربية التي تطبع مخرجات النماذج الكبرى مثل ChatGPT وGemini. النموذج، بحسب البروفيسور “بنجامين روزمان”، صُمم ليكون خفيفًا وسهل الاستخدام حتى في بيئات تفتقر للبنية التحتية القوية.

وفي السعودية، أطلقت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) نموذجًا لغويًا عربيًا باسم “علام”، يستند إلى نموذج LLaMa-2 مفتوح المصدر من شركة Meta، لكنه مخصص للبيئة الثقافية واللغوية العربية، ومدرّب على أكثر من 540 مليار وحدة بيانات (توكن).

وفي الهند، تتبنى الحكومة استراتيجية سيادية من خلال مشروع “Bharat Gen” بميزانية 26 مليون يورو، لتطوير نماذج لغوية تدعم عشرات اللغات المحلية. الشركات الناشئة مثل Sarvam AI وKrutrim تسير على النهج نفسه، مدعومة بشراكات أكاديمية مع المعاهد الهندية للتكنولوجيا.

عائق اللغة والهوية الثقافية في الذكاء الاصطناعي العالمي

النماذج الغربية، وإن كانت متعددة اللغات ظاهريًا، إلا أن هيمنة اللغة الإنجليزية على مجموعات التدريب تُضعف أداءها في لغات مثل العربية والهندية والسواحيلية. هذا الخلل، بحسب التقرير، لا يقتصر على القواعد النحوية، بل يمتد إلى سوء الفهم الثقافي، وتشويه السياقات.

في العالم العربي، أكدت دراسة لشركة Clusterlab التونسية أن معظم النماذج العالمية تفشل في التقاط التراكيب اللغوية الغنية والتنوع اللهجي للغة العربية. أما في الهند، فإن معهد “AI4Bharat” يعمل على بناء قواعد بيانات من النصوص العامية والمترجمة بدقة لرفع كفاءة النماذج في اللغات الإقليمية.

الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية
الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية
الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية
الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية
الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية
الجنوب العالمي يدخل سباق الذكاء الاصطناعي: من الهامش إلى السيادة الرقمية

دوافع تتجاوز التقنية: السيادة المعلوماتية في صلب المعركة

ليست اللغة وحدها ما يدفع هذه الدول للاستثمار في نماذجها الخاصة، بل المخاوف الجيوسياسية والاقتصادية. فالاعتماد على بنية تحتية رقمية خارجية – سواء أمريكية أو صينية – يعرض الأمن السيبراني والسيادة الوطنية للخطر.

وتسعى الإمارات من جهتها إلى ترسيخ نموذج “جيس” (JAIS) من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، الذي يدعم اللغتين العربية والإنجليزية. وتتبنى قطر النموذج اللغوي “فنار”، المطوّر في جامعة حمد بن خليفة، والذي يتسم بمعالجة لغوية عميقة تستند إلى بنية الجملة العربية.

عقبات في التمويل والبيانات… لكن الحلم لا يزال حيًّا

رغم هذه الجهود الطموحة، تواجه المشاريع الإقليمية تحديات جسيمة، أبرزها نقص التمويل، وصعوبة الحصول على بيانات تدريب ضخمة ونظيفة، وعدم توافر بنية حوسبة فائقة.

فكما يشير تقرير Nature، فإن عوائد الاستثمار في هذه النماذج ما زالت ضعيفة، لأن المستخدم النهائي في كثير من الأحيان يفضّل الأدوات العالمية، نظرًا لاعتياده عليها. كذلك، تُعيق بعض الحكومات ضعف البنية التنظيمية لحوكمة البيانات وتوطين التقنيات.

لكن المقاربة مختلفة: فالنماذج الإفريقية والآسيوية الناشئة لا تسعى فقط للسبق في المؤشرات العالمية، بل للربط بين التكنولوجيا والواقع المحلي، من دعم المزارعين بلغاتهم، إلى تسهيل الرعاية الصحية للنساء في الأرياف.

رسالة الجنوب العالمي: الشفافية والتعاون بدلًا من الاحتكار

أحد أبرز الفروقات بين مبادرات الجنوب العالمي وتلك التي في الغرب، كما يشير التقرير، هو التزام بعض المشاريع بالشفافية الكاملة. فالنموذج الإفريقي “InkobalM” يُنشر مع كود المصدر ومجموعة البيانات كاملة، لإتاحة تحسينه من قبل باحثين آخرين.

وفي الوقت الذي تروّج فيه بعض الشركات الغربية لـ”الانفتاح”، فإنها غالبًا لا تتيح سوى معاملات النماذج دون الكشف عن مصادر البيانات، وهو ما يعتبره الباحثون في الجنوب العالمي خطوة ناقصة.

من الهمس إلى الصوت العالمي

ما يجري اليوم في مراكز البحث في بنغالور، وجوهانسبرج، والدوحة، والرياض، والقاهرة، ليس مجرد تقليد للنماذج الغربية، بل هو مسار نحو التمكين الرقمي الثقافي، يضع في الاعتبار الحاجات الحقيقية، والمستخدم المحلي، والعدالة اللغوية.

وبحسب قول العالِمة جانكي ناوالي: “في الجنوب العالمي، لا نسعى لمجرد رفع الأرقام في مؤشرات الأداء، بل لتقديم أدوات تخدم المجتمع، وتتفهم سياقه، وتحترم لغته وهويته.”

في عالم يتجه إلى الأتمتة الكاملة، قد تكون هذه النماذج – مهما كانت صغيرة – الضمان الوحيد لحق الشعوب في خطابها التقني الذاتي.

 المصدر:

المقال الأصلي بعنوان: “الجنوب العالمي ينضم إلى سباق ابتكار أدوات الذكاء الاصطناعي”

المنشور في مجلة Nature بتاريخ 20 مايو 2025

تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى