تكنولوجيااقتصاد

من الذعر إلى الفرصة: كيف يمكن للعالم العربي تحويل أزمة الأسواق العالمية إلى نقطة انطلاق؟

من الذعر إلى الفرصة: كيف يمكن للعالم العربي تحويل أزمة الأسواق العالمية إلى نقطة انطلاق؟

كتب ا. د. وائل بدوى

في خضم العواصف التي تجتاح وول ستريت، حيث تتهاوى المؤشرات الأميركية بفعل التصعيد التجاري بين واشنطن وبكين، يقف العالم العربي عند مفترق طرق جديد: هل يكون متلقّيًا سلبيًا لتبعات الأزمة، أم يلتقط الفرصة ليعيد تشكيل موقعه في الخريطة الاقتصادية العالمية؟

انهيار مؤشر داو جونز بأكثر من 2,200 نقطة، ودخول ناسداك في منطقة “سوق الدب”، ليس مجرد أخبار مالية عابرة، بل تدل على اضطراب هيكلي في سلاسل التوريد والتجارة العالمية، واضمحلال ثقة المستثمرين في استقرار السياسات الاقتصادية للدول الكبرى. وفي مثل هذه اللحظات، لا يُقاس النجاح بحجم الموارد، بل بسرعة الفعل، وجرأة القرار، وذكاء التموضع.

الدول العربية—خاصةً تلك التي تمتلك بنى تحتية صناعية، أو موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا، أو قوة بشرية مؤهلة—تمتلك الآن فرصة نادرة لإعادة التفاوض على موقعها في سلاسل الإمداد العالمية، وجذب استثمارات تبحث عن بدائل مستقرة للصين كمركز تصنيع رئيسي.

في مصر، مثلًا، قد تكون المنطقة الاقتصادية لقناة السويس مرشحة لتصبح محورًا لوجستيًا ومركزًا للتصنيع الخفيف والمتوسط. وفي دول الخليج، يمكن تعزيز الاستثمارات في التكنولوجيا والصناعات البديلة، لتقليل الاعتماد على النفط، والتحوّل إلى اقتصاد متنوع ومرن.

لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود. فبدون إصلاحات هيكلية جادة، وتحفيزات مدروسة للمستثمرين، وشفافية في السياسات، قد تتحول الفرصة إلى أزمة مستوردة جديدة.

خطوات عملية لتحويل الأزمة إلى فرصة اقتصادية عربية

1. التحول إلى مراكز تصنيع بديلة للصين

مع تصاعد الحرب التجارية، تبحث الشركات العالمية—وخاصة الأميركية—عن بدائل لتقليل اعتمادها على المصانع الصينية. هنا، تبرز دول مثل مصر، المغرب، الأردن، تونس، وحتى بعض دول الخليج كمواقع جذابة للتصنيع والتجميع.

ما يجب فعله:

• تقديم حوافز ضريبية وتشريعية لجذب الشركات المتضررة من الرسوم.

• تطوير مناطق حرة صناعية ذكية، مجهّزة لوجستيًا وتقنيًا.

• تسريع اتفاقات التجارة الحرة مع أوروبا وآسيا لتسهيل التصدير.

2. الاستثمار في الصناعات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي

انهيار شركات التكنولوجيا الكبرى بسبب الحرب التجارية يُظهر هشاشتها أمام صدمة سلاسل الإمداد. هذه لحظة مثالية للعالم العربي ليخطو نحو الاقتصاد الرقمي والابتكار المحلي.

ما يجب فعله:

• إنشاء صناديق وطنية للابتكار لتمويل المشاريع التكنولوجية الناشئة.

• عقد شراكات مع جامعات عالمية لنقل وتوطين المعرفة التقنية.

• دعم الذكاء الاصطناعي في الصحة، الزراعة، التعليم، والطاقة لتقليل الاعتماد على الخارج.

3. تنويع مصادر الاستيراد والتصدير

الدول العربية تعتمد بشدة على استيراد التكنولوجيا والمواد الخام من أميركا والصين. استمرار الحرب التجارية قد يرفع الأسعار ويزيد الضغوط.

ما يجب فعله:

• إعادة رسم خرائط سلاسل التوريد بالبحث عن موردين بديلين في الهند، تركيا، أمريكا اللاتينية، وأفريقيا.

• دعم الصناعات المحلية لتقليل فاتورة الواردات.

• تشجيع الصادرات الإقليمية داخل العالم العربي عبر تسهيل النقل والتشريعات.

4. جذب رؤوس الأموال الهاربة من الأسواق الغربية

عندما تشتعل الحروب التجارية، يبحث المستثمرون الدوليون عن أسواق أكثر استقرارًا وأقل مخاطرة. بعض الدول العربية تمتلك هذا الاستقرار، لكنها لم تفعّل أدواتها التسويقية بعد.

ما يجب فعله:

• تعزيز الشفافية والحوكمة لتقليل مخاوف المستثمر الأجنبي.

• إطلاق حملات ترويج ذكية على غرار “استثمر في السعودية” أو “مصر بوابتك لأفريقيا”.

• تسهيل دخول رؤوس الأموال عبر نوافذ إلكترونية موحدة، وربطها بمؤشرات أداء واضحة.

5. حماية الاقتصاد المحلي والمستهلك من تقلبات الأسعار العالمية

في ظل التضخم المستورد نتيجة الاضطرابات العالمية، من الضروري حماية المواطن من انفجار الأسعار.

ما يجب فعله:

• دعم محدود وذكي للسلع الأساسية عبر برامج رقمية موجهة.

• مراقبة الأسواق ومنع الممارسات الاحتكارية في الأزمات.

• تعزيز ثقافة “صنع في الوطن” من خلال الإعلام والمبادرات الشعبية.

الفرصة في زمن الاضطراب: بين الطموح والواقع

ربما يرى البعض أن الحديث عن الفرص في لحظة انهيار الأسواق نوع من التفاؤل غير الواقعي، لكن التجربة التاريخية تُثبت عكس ذلك:

أكبر قصص الصعود الاقتصادي وُلدت من رحم الأزمات.

• الصين نفسها، التي تتصارع اليوم مع أميركا على قيادة النظام الاقتصادي، انطلقت بعد أزمة آسيا المالية في التسعينيات.

• الهند فتحت اقتصادها على العالم بعد أزمة ميزان المدفوعات عام 1991.

• دول شرق أوروبا أعادت بناء اقتصاداتها بالكامل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، لتصبح اليوم دولًا صناعية وتكنولوجية متقدمة.

فلماذا لا تُصبح القاهرة، الرياض، الدار البيضاء، دبي مراكز جذب للتصنيع، التكنولوجيا، والتمويل العالمي في عالم ما بعد الصين؟

لكن هذا التحول لا يمكن أن يتم بنوايا طيبة أو خطط ورقية فقط، بل يتطلب:

• تحوّلًا إداريًا شاملاً في طريقة إدارة الملفات الاقتصادية، قائمًا على الكفاءة لا المجاملة.

• تعاونًا إقليميًا عربيًا ذكيًا، يتجاوز الحساسيات التقليدية، ويستثمر في التكامل بدلًا من التنافس العقيم.

• ربط الجامعات ومراكز البحث بالقطاع الإنتاجي الحقيقي، حتى لا تظل المعرفة حبيسة الأرفف.

• رؤية وطنية مشتركة بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني، توجّه الموارد نحو الأهداف القومية لا الفئات المحظوظة فقط.

ختامًا: لحظة امتحان… وفرصة إعادة بناء

ما يجري الآن هو امتحان حقيقي للقدرة العربية على استيعاب التحولات الكبرى، ليس فقط في المال والأسواق، بل في المفاهيم:

من الاعتماد إلى الاكتفاء.

من الاستيراد إلى التصنيع.

من الاستجابة إلى المبادرة.

إما أن نعيد تشكيل علاقتنا بالعالم على أسس جديدة، أو نظل على هامشه… نتألم بصمت كلما تحركت عجلة القوى الكبرى.

الكرة الآن في ملعب القادة، وصنّاع القرار، والعقول العربية الشابة.

هل نغتنم اللحظة؟ أم نكتفي بمراقبة الشاشات وهي تعلن خسائر الآخرين… بينما نخسر نحن فرصتنا الذهبية؟

ما يحدث في الأسواق العالمية اليوم ليس مجرد أزمة اقتصادية مؤقتة، بل نقطة تحوّل في النظام الاقتصادي العالمي. والدول الذكية هي من ترى في كل أزمة بذرة لفرصة، وتبدأ من اليوم—not غدًا—في تهيئة بيئتها الداخلية لتصبح جزءًا من الحل وليس الضحية.

العالم يعيد رسم خارطته الاقتصادية، والدول العربية تملك الأرض والموقع والعقول… ما ينقصها فقط: القرار الجريء.

اليوم، لا يكفي أن تتفادى الطوفان العالمي—بل يجب أن تتعلم كيف تبحر وسطه، وتخرج منه أقوى.

تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى