معركة الوعي – مستوحاة من كتاب «الإنسان والشيطان: وجهًا لوجه على رقعة الشطرنج» للدكتور شريف صلاح الدين.

معركة الوعي – مستوحاة من كتاب «الإنسان والشيطان: وجهًا لوجه على رقعة الشطرنج» للدكتور شريف صلاح الدين.
كتب ا. د. وائل بدوى
منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض، وهو يعيش صراعًا خفيًا بين قوى النور والظلام في داخله؛ بين ذلك الصوت العميق الذي يهديه إلى سواء السبيل، وذلك الهمس الغامض الذي يُغريه بالسقوط في فخ الرغبات. وفي كتابه «الإنسان والشيطان: وجهًا لوجه على رقعة الشطرنج»، يقدّم الدكتور شريف صلاح الدين لوحة فكرية وفلسفية تُجسّد هذا الصراع الأزلي، في صورة مباراة شطرنج بين الإنسان والشيطان، حيث تتحوّل الرقعة إلى مسرح للأفكار، وتغدو القطع رموزًا لخيارات الروح والعقل.
اختار الكاتب الشطرنج بوصفه استعارة كبرى، إذ يشبه حياة الإنسان كثيرًا؛ خطوات محسوبة، ومفاجآت غير متوقعة، وتضحيات تُفرض في لحظات حرجة. في كل نقلة، يتراءى للإنسان وهم الانتصار أو فزع الهزيمة، لكن الشيطان، بمهارته في المراوغة، يظل حاضرًا على الجانب الآخر من الرقعة، يترصّد أخطاءه، ويستغلّ ضعفه، ويُغريه بخطوات تبدو براقة لكنها تقوده إلى الفناء.
يضع الكاتب القارئ أمام سؤال ميتافيزيقي عميق: هل الإنسان سيد قراره حقًّا، أم أن الشيطان، بحيله وإغوائه، يتحكّم في مجريات اللعبة؟
يُجيب النص بلغة رمزية أن الإنسان يظلّ حرًّا ما دام يملك الوعي؛ فكل حركة يخطوها على الرقعة تمثّل قرارًا يمكن أن يقوده إلى النور أو إلى الظلام. الحرية هنا ليست مطلقة، لكنها خيار متجدد، يتطلّب يقظة مستمرة ومقاومة داخلية لا تهدأ.
لا يظهر الشيطان في الكتاب ككائن خارجي فحسب، بل كصوت داخلي يضخّم الرغبات ويُعمي البصيرة. هو ليس عدوًا ميتافيزيقيًا بعيدًا، بل أقرب إلى الإنسان من نفسه، يتخفى في هيئة منطق مُقنع، أو عاطفة مشتهاة، أو تبرير مريح للهروب من المسؤولية. وهنا يكشف الكاتب عن بعدٍ صادم: الشيطان لا ينتصر إلا حين يجد في داخل الإنسان أرضًا خصبة لغوايته.
ما يميز هذا الكتاب هو لغته الأدبية التي تجمع بين الفلسفة والتأمل والشاعرية. فهو لا يقدّم بحثًا أكاديميًا جافًا، بل رحلة فكرية مُشبعة بالصور البلاغية والاستعارات العميقة. كل صفحة تُشعرك أنك على رقعة الشطرنج بالفعل؛ تسمع وقع القطع على المربعات، وترى المعركة تتجسّد في صور حية بين الأبيض والأسود، الخير والشر، العقل والهوى.
لا ينتهي الكتاب إلى حسم الصراع بانتصار طرف على آخر، بل يُبرز أن اللعبة مستمرة ما دامت الحياة. فالمغزى أن الإنسان ليس محكومًا بالهزيمة، لكنه ليس في مأمن من السقوط أيضًا. وكل وعي يكتسبه، وكل يقظة يحققها، هي بمثابة نقلة ناجحة تُقرّبه من النصر، أو على الأقل تمنحه قدرة على الصمود في وجه خصم لا يكلّ ولا يملّ.
واليك دراسة نقدية عن الكتاب –
1. مدخل فلسفي
منذ أقدم العصور، ظلّ الإنسان يعيش في مواجهة دائمة مع قوى الشرّ المتخفية في داخله وخارجه. هذه المواجهة لم تُقدّم بوصفها صراعًا عسكريًا أو سياسيًا فقط، بل رُسمت في الأدب والفلسفة كمعركة روحية ووجودية. وفي كتابه «الإنسان والشيطان: وجهًا لوجه على رقعة الشطرنج»، يعيد د. شريف صلاح الدين صياغة هذا الصراع الأبدي، ليقدمه عبر استعارة الشطرنج، التي تجمع بين التفكير الاستراتيجي والرمزية العميقة.
2. الشطرنج كاستعارة للوجود
اختيار الشطرنج ليس اعتباطيًا؛ فهي لعبة العقل، لكنّها في الكتاب تتحول إلى لعبة الروح. القطع ليست جنودًا وملوكًا فقط، بل رموز لمبادئ وأهواء، لانتصارات صغيرة وهزائم داخلية. الرقعة ذات المربعات السوداء والبيضاء تعكس جدلية الخير والشرّ في النفس البشرية، حيث لا نقاء مطلق ولا سواد مطلق، بل مساحة تتقاطع فيها الخطوط الرمادية التي تُشكّل واقع الإنسان.
3. الإنسان كفاعل وكمفعول
يقدّم الكاتب الإنسان ليس فقط كلاعب حرّ، بل أيضًا ككائن عرضة للإغواء. هنا تبرز ثنائية الحرية والقدر: هل هو سيد قراراته أم أسير شهواته؟ الكتاب يُظهر أن الحرية موجودة بقدر الوعي، وأن كل نقلة على الرقعة هي قرار لا مفرّ من عواقبه. لكن الشيطان، بمكره، يظل حاضرًا، يحاول استغلال الثغرات، ويدفع بالإنسان نحو نقلة خاطئة قد تبدو براقة لكنها في جوهرها هزيمة.
4. الشيطان: الخصم والمرآة
أحد أجمل أبعاد الكتاب أنه لا يقدّم الشيطان كعدو خارجي فقط، بل كمرآة خفية للإنسان نفسه. الشيطان، في هذا التصور، هو تجسيد للرغبات المكبوتة، للأعذار المريحة، للتبريرات التي يختلقها العقل ليُسكت الضمير. هذه الفكرة تذكّرنا برؤية سي. إس. لويس في «رسائل الشيطان»، حيث يكتب الشيطان الأكبر (سكروتايب) رسائل إلى تلميذه يعلّمه فيها فنون الإغواء. في كلا العملين، لا يُقدَّم الشيطان كمجرّد خصم أسطوري، بل ككائن بارع في كشف ضعف الإنسان واستخدامه كسلاح ضده.
5. مقارنة مع «رسائل الشيطان» لسي. إس. لويس
- في كتاب لويس، يُطرح الشيطان كمدرّب في مدرسة الشرّ، يعلّم تلميذه كيف يستغل لحظات ضعف البشر. العمل ساخر، يستخدم اللغة الساخرة والنقد الأخلاقي اللاذع.
- أما د. شريف صلاح الدين، فأسلوبه أقرب إلى المجاز الفلسفي والشعرية الرمزية؛ يضع الإنسان والشيطان على رقعة واحدة، لا ليضحك القارئ، بل ليدفعه إلى التأمل والرهبة.
- كلا العملين يلتقيان في الفكرة الجوهرية: الشرّ لا يفرض نفسه بالقوة، بل يتسلّل بخطوات صغيرة، عبر تنازلات يومية، حتى يجد الإنسان نفسه قد خسر المباراة من دون أن يشعر.
6. البنية الأسلوبية واللغة
لغة د. شريف صلاح الدين ذات نفس أدبي واضح؛ فهي مشبعة بالاستعارات والرموز، لا تُقدّم الحقائق كتعليم مباشر، بل كصور تنبض بالحياة.
الرقعة تتحول إلى مسرح، والقطع إلى كائنات رمزية، واللعبة إلى سفر روحي. هذه اللغة تجعل القارئ يعيش النص لا كمتلقٍّ سلبي، بل كمن يشارك في المباراة نفسها، يحسّ بثقل القرارات، ويرى نفسه في كل نقلة.
7. القيمة النقدية والفكرية
الكتاب يُعيد للذاكرة الأدب الرمزي الذي استخدمته مدارس كثيرة في الفلسفة والأدب (من فاوست لغوته إلى الكوميديا الإلهية لدانتي). لكنه هنا يعيد إنتاج الفكرة بلغة عربية معاصرة، تُخاطب القارئ العربي بلغته وثقافته، وتربطه بصراع داخلي يعيشه كل يوم.
القيمة الحقيقية للنص أنه لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يضع الإنسان أمام مرآته: هل هو اللاعب الذي يمسك بالقطع، أم القطعة نفسها في لعبة أكبر مما يتصور؟
8. لعبة لا تنتهي
لا يقدّم الكتاب نهاية حاسمة للمباراة، بل يؤكد أن الصراع مستمر ما دامت الحياة. كل يوم هو جولة جديدة، كل قرار نقلة جديدة، وكل لحظة ضعف فرصة جديدة للخصم كي يتقدّم. لكن الأمل حاضر: ما دام الإنسان يعي دوره، وما دام يملك شجاعة الاعتراف بأخطائه، فإن فرصته في الاستمرار والصمود تبقى قائمة.
كتاب «الإنسان والشيطان: وجهًا لوجه على رقعة الشطرنج» يُعدّ إضافة مهمة لأدب الصراع الروحي والفلسفي. فهو يمزج بين اللغة الأدبية الراقية والرمزية العميقة، ويعيد طرح سؤال قديم بصياغة جديدة: هل نحن أحرار حقًا، أم أننا نلعب لعبة شطرنج يحدد الشيطان قواعدها؟
وإذا كان لويس في «رسائل الشيطان» قد فضح استراتيجيات الشرّ بلغة ساخرة، فإن شريف صلاح الدين اختار أن يوقظ القارئ برهبة الشعر وصور المجاز. وفي الحالتين، الهدف واحد: أن يدرك الإنسان أن معركته ليست مع العالم الخارجي وحده، بل مع ذاته أولًا، ومع صوتٍ داخلي قد يكون ألدّ أعدائه.
«الإنسان والشيطان: وجهًا لوجه على رقعة الشطرنج» ليس كتابًا يُقرأ على عجل، بل نصّ يتطلّب وقفة وتأملًا. إنه يُخاطب في القارئ إنسانه الداخلي، ويدعوه إلى النظر في مرآة ذاته، ليرى كم من القرارات اتخذها بعقله، وكم منها خضع فيها لإغواء خفيّ.
إنه كتاب يُعيد طرح السؤال الأقدم في تاريخ البشرية: من يحكم الرقعة؟ أهو الإنسان، أم الشيطان، أم أنها لعبة لا يربح فيها سوى الوعي ذاته حين يختار ألا ينهزم؟