تكنولوجياصحافة واعلام

صحيفة إيطالية تُصدر أول عدد كامل من إنتاج الذكاء الاصطناعي: ثورة أم نعيٌ للصحافة؟

صحيفة إيطالية تُصدر أول عدد كامل من إنتاج الذكاء الاصطناعي: ثورة أم نعيٌ للصحافة؟

كتب د. وائل بدوى

في خطوة تُعد الأولى من نوعها، أعلنت صحيفة “إل فوليو” الإيطالية الليبرالية المحافظة عن إصدار عدد كامل تم إنتاجه بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث اقتصر دور الصحفيين على طرح الأسئلة على روبوت المحادثة وقراءة الإجابات، ثم إدراجها في النصوص دون تعديل جوهري. تم إرفاق هذا العدد، المُسمى Il Foglio AI، في نسخة الثلاثاء المطبوعة، كما أتيح أيضًا عبر الإنترنت.

ورغم أن الصحيفة وصفت هذا العدد بأنه الأول عالميًا من نوعه، فإن صحيفة سويدية تُدعى Nöjesguiden كانت قد سبقتها بتجربة مماثلة صيف العام الماضي، مما يضع علامة استفهام حول من أطلق الشرارة فعليًا.

بحسب رئيس تحرير الصحيفة كلاوديو سيرازا، فإن الهدف من هذه الخطوة هو اختبار عملي لما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي لغرف الأخبار، مؤكدًا أن التجربة لا تخلو من التحديات والتساؤلات حول مستقبل الصحافة. وقال:

“سيكون هذا أول عدد لصحيفة يومية يُنشر على الأكشاك، كُتب بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي. كل شيء — الكتابة، العناوين، الاقتباسات، الملخصات، بل وأحيانًا حتى السخرية — تمت عبر الآلة.”

صحيفة إيطالية تُصدر أول عدد كامل من إنتاج الذكاء الاصطناعي: ثورة أم نعيٌ للصحافة؟
صحيفة إيطالية تُصدر أول عدد كامل من إنتاج الذكاء الاصطناعي: ثورة أم نعيٌ للصحافة؟

ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام، لكنها قد تكون الأكثر جرأة.

في عام 2023، تعرض موقع CNET لانتقادات واسعة بعدما نُشرت مقالات مالية تمت كتابتها باستخدام الذكاء الاصطناعي وتضمنت أخطاء جوهرية. وفي مثال آخر، أطلقت Los Angeles Times أداة ذكاء اصطناعي تُدعى Insights، تهدف إلى تحليل وتحقيق التوازن في الرأي، لكنها أُوقفت سريعًا بعدما وُجد أنها تقلل من شأن جماعة الكو كلوكس كلان (KKK) بشكل غير لائق.

مشكلة هذه النماذج، كما يراها العديد من الخبراء، أنها توهم القارئ بالوضوح والموثوقية، لكنها في الحقيقة مجرد أنظمة “إكمال تلقائي متطور”، قادرة على توليد نصوص تبدو صحيحة، لكنها قد تكون مليئة بالمغالطات أو المعلومات المختلقة.

رغم الشكوك، تستمر المؤسسات الإعلامية في التجريب. فعلى سبيل المثال، تستخدم صحيفتا واشنطن بوست وبلومبيرغ أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتلخيص المقالات. أما موقع Patch المحلي الأمريكي، فقد أصبح يعتمد بالكامل على تقنيات الذكاء الاصطناعي لجمع الأخبار من الإنترنت دون تدخل بشري فعلي.

هذا الاتجاه يُقلق النقابات الصحفية، التي بدأت تطالب بعقود تتضمن بنودًا تحظر استخدام الذكاء الاصطناعي كبديل للصحفيين، في ظل مخاوف من أن تُستخدم التقنية لتقليص أعداد الموظفين وخفض التكاليف.

يعتقد البعض أن الصحافة “الحقيقية” — التي تعتمد على التحقيقات الأصلية والمقابلات الميدانية وجمع المعلومات غير المتاحة مسبقًا على الإنترنت — ستظل صامدة. إذ إن الذكاء الاصطناعي، في جوهره، لا ينتج معرفة جديدة بل يعيد صياغة ما هو موجود مسبقًا.

لكن واقع الأمر أن الناس لم يعودوا يعطون قيمة كبيرة للمحتوى الرقمي، سواء في الصحافة أو الموسيقى أو حتى الفيديو، مما يجعل تقليص التكاليف عبر الأتمتة أمرًا مغريًا للناشرين.

ربما نصل يومًا إلى مرحلة تنشر فيها مقالات الذكاء الاصطناعي معلومات مأخوذة من مقالات أخرى كتبتها أنظمة ذكاء اصطناعي، حتى تضيع الحقيقة الأصلية بين طبقات التكرار والتوليد الآلي.

ومع اعتماد هذه النماذج على محتوى الويب المفتوح، فإن السؤال الكبير يطرح نفسه:

ماذا سيحدث عندما تتسبب هذه النماذج نفسها في اندثار الناشرين المستقلين الذين يزوّدونها بالمحتوى من الأصل؟

تجربة Il Foglio AI ليست مجرد محاولة تقنية، بل علامة فارقة في علاقة الصحافة بالتكنولوجيا. هي في ذات الوقت إنجاز تقني مثير ومؤشر إنذار. فبينما تفتح آفاقًا جديدة للإنتاج الإعلامي، تثير تساؤلات عميقة حول هوية الصحافة، مصداقيتها، ومصير العاملين فيها.

تجربة Il Foglio AI تمثل نقطة تحول في علاقة الصحافة بالذكاء الاصطناعي، إذ فتحت الباب واسعًا أمام نقاش يتجاوز الجانب التقني ليصل إلى جوهر الصحافة نفسها: من ينتج الخبر؟ من يتحمل مسؤوليته؟ وهل تكفي الخوارزميات لتقديم مادة إعلامية موثوقة تمس الناس وتؤثر في وعيهم الجمعي؟

قد تبدو فكرة صحيفة كاملة مكتوبة بالذكاء الاصطناعي جذابة من حيث الكفاءة والسرعة وخفض التكاليف، لكنها تثير مخاوف جوهرية تتعلق بالمصداقية والدقة والسياق. فالذكاء الاصطناعي لا يملك وعيًا أو فهمًا حقيقيًا، بل يعيد توليد نصوص استنادًا إلى أنماط لغوية من بيانات سابقة. وفي غياب محررين محترفين يتحققون من المعلومات ويضعونها في إطارها الصحيح، تصبح الأخبار مجرد نصوص “تبدو صحيحة” لكنها قد تحتوي على مغالطات جوهرية أو تحيزات مبرمجة.

رئيس تحرير الصحيفة، كلاوديو سيرازا، أراد من هذه التجربة أن يدفع الصحفيين إلى مواجهة الأسئلة الصعبة: ما الذي يجعل الصحافة حقيقية؟ هل يكفي إنتاج النصوص، أم أن الصحافة تتطلب تحقيقًا ومساءلة ووجودًا إنسانيًا يتفاعل مع الواقع؟ قد لا تكون الإجابة سهلة، لكن من المؤكد أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بشكل كامل يفتح بابًا لمخاطر تتجاوز مسألة فقدان الوظائف، لتصل إلى المساس بثقة الجمهور في الإعلام ككل.

التجربة الإيطالية لم تكن الأولى، وربما لن تكون الأخيرة، لكنها تدل على اتجاه متسارع في الصناعة الإعلامية نحو أتمتة العمليات التحريرية، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها المؤسسات الإعلامية. ومن غير المستبعد أن نرى في المستقبل القريب مقالات مكتوبة بالذكاء الاصطناعي تقتبس من مقالات أخرى كتبتها خوارزميات مماثلة، حتى يتلاشى المصدر الأصلي وتضيع الحقيقة في شبكة من النصوص المتكررة.

المفارقة أن الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد في تدريبه على المحتوى الذي ينتجه الصحفيون والكتاب، قد يساهم في إضعاف المنصات التي تمده بالحياة. فإذا توقفت الصحافة الحقيقية عن العمل، فلن يبقى للذكاء الاصطناعي ما يتعلم منه. وعندها، سنواجه فراغًا معرفيًا لا يمكن ملؤه بالسرعة ولا بالتكرار، بل بالحضور الإنساني الذي لا يمكن استنساخه.

في النهاية، تجربة Il Foglio AI ليست مجرد إنجاز تقني، بل مرآة لأسئلة وجودية تواجه مهنة الصحافة: هل نحن على أعتاب عصر جديد من الإبداع الرقمي؟ أم أننا نخطو خطوة نحو فقدان المعنى الحقيقي للكلمة المكتوبة؟ هذه ليست مجرد تجربة… إنها لحظة فارقة قد تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمعلومة.

هل هي بداية ثورة؟ أم إعلان مبكر عن نهاية عصر الصحفي البشري؟

الزمن وحده كفيل بالإجابة.

تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى