الدكتور مصطفى كمال طلبة: رائد البيئة العالمي ومفكر التنمية المستدامة

الدكتور مصطفى كمال طلبة: رائد البيئة العالمي ومفكر التنمية المستدامة
كتب ا.د. وائل بدوى
يُعد الدكتور مصطفى كمال طلبة (1922 – 2016) واحداً من أبرز العلماء العرب الذين تركوا بصمة قوية على الساحة الدولية في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة. تميز مساره العلمي والمهني بالريادة، ليس فقط على مستوى مصر أو العالم العربي، بل على مستوى العالم بأسره، حيث كان له دور محوري في بناء المنظومة العالمية للبيئة، ومواجهة التحديات الكبرى التي تواجه كوكب الأرض.
النشأة والتعليم
وُلد الدكتور مصطفى كمال طلبة في 8 ديسمبر 1922 بمدينة زفتى التابعة لمحافظة الغربية في مصر. أظهر منذ صغره شغفًا بالعلوم الطبيعية، ليلتحق لاحقًا بكلية العلوم في جامعة القاهرة ويتخرج عام 1943 متخصصًا في علوم النبات. بعد ذلك، حصل على درجة الدكتوراه في علم أمراض النبات عام 1949، ليبدأ مسيرة علمية زاخرة امتدت لأكثر من نصف قرن.
المسيرة الأكاديمية والبحثية
عقب عودته إلى مصر، التحق الدكتور طلبة بالتدريس في جامعة القاهرة، ثم شغل مناصب بحثية مرموقة في المركز القومي للبحوث، حيث تولى رئاسة قسم النبات ثم عمادة معهد بحوث النباتات. امتد نشاطه البحثي إلى تطوير العديد من الدراسات حول البيئة الزراعية والنباتات، لكنه سرعان ما توجه باهتمامه إلى القضايا البيئية الأوسع، التي بدأ نجمها في الصعود مع ازدياد التحديات البيئية العالمية.
الأدوار الوطنية والقيادة في مصر
في بداية الستينات، دخل الدكتور طلبة العمل العام من أوسع أبوابه، حيث عُيّن أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للعلوم عام 1961، وكان له دور بارز في وضع سياسات العلوم في مصر. كما تولى وكالة وزارة التعليم العالي للشؤون الثقافية، وتم تعيينه وزيرًا للشباب في عام 1971.
لكن المنصب الأبرز كان تعيينه أول رئيس لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر عام 1972، وهو المنصب الذي مكّنه من الربط بين البحث العلمي وصناعة القرار، ودفع مصر إلى مقدمة الدول النامية المهتمة بالعلم والتكنولوجيا.
الريادة العالمية: مؤسس بيئة الأمم المتحدة
في عام 1972، عقب انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الأول للبيئة في ستوكهولم، تم تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وهو الذراع البيئي الرسمي للأمم المتحدة، ومقره في نيروبي، كينيا. وكان الدكتور مصطفى كمال طلبة من الأسماء البارزة في تأسيسه، وتم تعيينه نائبًا للمدير التنفيذي.
وفي عام 1975، تولى الدكتور طلبة منصب المدير التنفيذي للبرنامج، ليقوده لمدة 17 عامًا حتى عام 1992، وهي أطول فترة يتولاها مسؤول في هذا المنصب. وخلال هذه الفترة، شهد العالم تحولات بيئية كبرى، وكان طلبة في قلب الحدث.
أبرز إنجازاته العالمية
1.بروتوكول مونتريال (1987):
ساهم الدكتور طلبة بقوة في بلورة هذا البروتوكول التاريخي، الذي يهدف إلى حماية طبقة الأوزون من التدهور بسبب انبعاثات مركبات الكلوروفلوروكربون. يُعتبر من أنجح الاتفاقيات البيئية، ويُنسب إلى الدكتور طلبة الفضل في إقناع الدول الصناعية والنامية بالتوقيع عليه.
2.اتفاقية فيينا (1985):
مهدت الطريق لبروتوكول مونتريال، وساهم فيها طلبة من خلال بناء التوافق الدولي حول أهمية حماية الغلاف الجوي.
3.دعم الاتفاقيات البيئية الأخرى:
من اتفاقية التنوع البيولوجي إلى اتفاقية بازل بشأن النفايات الخطرة، كان له دور في الدفع نحو التعاون الدولي.
4.إبراز قضايا الجنوب العالمي:
ركز على تمثيل الدول النامية في مفاوضات البيئة، وواجه الهيمنة الغربية في قضايا السياسات البيئية.
تكريمات وألقاب
•وصفته مجلة The Economist بـ”العملاق الأخضر” لما له من تأثير بيئي عالمي.
•اعتبره الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان أحد المفكرين القلائل الذين ساهموا في صياغة أجندة البيئة المستدامة.
•حصل على أوسمة وشهادات دكتوراه فخرية من عدة دول وجامعات حول العالم.
العودة والتأمل
رغم إنجازاته الدولية، لم ينسَ الدكتور طلبة وطنه الأم، فقد عاد في مراحل مختلفة من حياته ليشارك في وضع السياسات البيئية لمصر، ويحذر من تلوث المياه والهواء، وتدهور الأراضي الزراعية، كما ظهر في مقابلات إعلامية مؤثرة دعا فيها إلى الاهتمام بالبحث العلمي و”ربط العلم بالسياسات”.
فلسفته البيئية وأسلوبه القيادي
كان الدكتور مصطفى كمال طلبة يؤمن بأن البيئة ليست قضية علمية فقط، بل قضية إنسانية وأخلاقية في المقام الأول. وقد جسّد هذا الإيمان من خلال دعواته الدائمة إلى تحقيق العدالة البيئية بين الشمال والجنوب، إذ كان يرى أن الدول النامية تدفع الثمن الأكبر للتدهور البيئي رغم أنها الأقل تسببًا فيه.
اتبع أسلوبًا فريدًا في قيادته الدولية، جمع بين الصرامة العلمية والقدرة التفاوضية العالية. لم يكن مجرد بيروقراطي أممي، بل كان مفاوضًا محنكًا استطاع أن يقنع حكومات كبرى مثل الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، والدول الأوروبية، إلى جانب الدول النامية، بالجلوس إلى طاولة واحدة لوضع حلول بيئية ملزمة.
كما شدّد دائمًا على أهمية دمج البعد البيئي في خطط التنمية الوطنية، وهو ما نادى به قبل أن يصبح شعارًا عالميًا ضمن أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي تبنّتها الأمم المتحدة في 2015.
مساهماته في التعليم وبناء القدرات
لم يقتصر دوره على السياسات الدولية، بل أولى اهتمامًا خاصًا ببناء قدرات الشباب والعلماء في الدول النامية. وكان من أبرز من دعوا إلى:
•تدريب الباحثين الأفارقة والعرب في مجالات البيئة والتغير المناخي.
•إدماج مفاهيم الاستدامة في مناهج التعليم منذ المراحل المبكرة.
•تمكين المرأة في العلوم البيئية.
وقد أطلق العديد من البرامج والمبادرات داخل برنامج الأمم المتحدة للبيئة التي هدفت إلى نشر التوعية البيئية في المدارس، الجامعات، والمؤسسات الحكومية.
إرثه المستدام وتأثيره على السياسات العالمية
بعد تقاعده من منصب المدير التنفيذي لـ UNEP عام 1992، بقي الدكتور طلبة مرجعًا بيئيًا عالميًا يُستشار في كبرى الاتفاقيات الدولية. كما ظل مدافعًا شرسًا عن قضايا مثل:
•التغير المناخي
•أمن المياه
•إدارة النفايات الخطرة
•الاستدامة في المدن
ترك إرثًا علميًا غنيًا من خلال الأبحاث، المقالات، واللقاءات التلفزيونية، بالإضافة إلى اسمه الذي يُذكر كلما طُرحت قضية دولية حول البيئة.
التوصيات والخاتمة
إن تجربة الدكتور مصطفى كمال طلبة يجب ألا تُحصر في إطار التأريخ أو التقدير فقط، بل يجب أن تكون نموذجًا يحتذى به في تشكيل قادة المستقبل في مجالات البيئة والتنمية.
ولهذا نوصي بما يلي:
1.تدريس تجربته في الجامعات المصرية والعربية ضمن مناهج التنمية المستدامة والسياسات البيئية.
2.إنشاء جائزة سنوية باسمه تُمنح لأفضل باحث بيئي في العالم العربي.
3.إعادة إحياء مشروع علمي يحمل فكره، مثل مراكز بحثية بيئية إقليمية تعتمد على فلسفته في العمل التكاملي بين العلم والسياسة.
وفاته وإرثه
توفي الدكتور مصطفى كمال طلبة في 28 مارس 2016 في جنيف، سويسرا عن عمر يناهز 93 عامًا. وبرحيله فقد العالم أحد أعمدة العمل البيئي الدولي، الذي لطالما نادى بأن البيئة ليست رفاهية، بل أساس للبقاء والتقدم.
خاتمة
يبقى الدكتور مصطفى كمال طلبة نموذجًا نادرًا للعالم المصري الذي استطاع أن يجمع بين العمق الأكاديمي، والحنكة السياسية، والرؤية العالمية. لقد سطّر اسمه في سجل رواد البيئة حول العالم، وترك إرثًا من السياسات والاتفاقيات والمواقف التي لا تزال تحمي كوكب الأرض حتى اليوم.
لقد كان الدكتور مصطفى كمال طلبة أكثر من مجرد عالم بيئي؛ كان صاحب رؤية، وباني مؤسسات، ومدافع عن الأرض والإنسان. قد لا يعرفه كثيرون في العالم العربي، رغم أن العالم الغربي احتفى به ووصفه بـ”العملاق الأخضر”. رحل في صمت، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى في مسيرة الإنسانية نحو التوازن مع الطبيعة.
ومن حق الأجيال القادمة أن تتعرف على هذا الرائد العظيم، وتستلهم من مسيرته مبادئ العمل، والإصرار، والالتزام بقضية عادلة: إنقاذ كوكب الأرض.