إعادة ضبط البوصلة التشريعية
البرلمان يوافق نهائيًا على تعديلات قوانين انتخاب مجلسي النواب والشيوخ: خطوة استراتيجية نحو عدالة تمثيلية واستقرار ديمقراطي

إعادة ضبط البوصلة التشريعية
البرلمان يوافق نهائيًا على تعديلات قوانين انتخاب مجلسي النواب والشيوخ: خطوة استراتيجية نحو عدالة تمثيلية واستقرار ديمقراطي
بقلم: د. حسين المطعني
في خطوة تُعد الأهم منذ سنوات في مسار الحياة النيابية المصرية، وافق مجلس النواب برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي، بشكل نهائي على تعديل قوانين انتخابات مجلسي النواب والشيوخ، في مشروع قانون يهدف إلى تعزيز الاستقرار السياسي وترسيخ تمثيل عادل ومتوازن يُلائم التحولات السكانية والاجتماعية.و في جلسة وصفت بـ”الحاسمة” في مسار الحياة النيابية المصرية، وافق مجلس النواب المصري نهائيًا على تعديل بعض أحكام قانوني مجلس النواب ومجلس الشيوخ، بما يشمل إعادة توزيع الدوائر الانتخابية، وتعديل عدد المقاعد ونسب تمثيل المرأة، مع رفع قيمة التأمين الانتخابي.
لكن خلف هذه البنود الجافة، تقف رؤية عميقة تعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة من خلال صندوق الانتخاب.
لماذا الآن؟ وما الذي تغيّر؟
تقول الإحصاءات الرسمية إن عدد السكان في مصر قد تجاوز 105 ملايين نسمة، مع تغيّرات ديموغرافية كبرى داخل المحافظات. مثلًا:
• محافظة الجيزة شهدت زيادة ضخمة في الكثافة السكانية في مناطق مثل “أكتوبر والشيخ زايد”، بينما تراجع عدد السكان نسبيًا في مناطق أخرى.
• في محافظة بني سويف، تمت زيادة مقعد نيابي لدائرة بسبب النمو السكاني، ما يعكس استجابة مباشرة للواقع، بدلًا من الاكتفاء بنظام انتخابي تقليدي قديم لا يراعي الفروق الحديثة.
نحو عدالة تمثيلية أكثر واقعية
أكد المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، أن التعديلات ليست مجرد “تحديث تشريعي”، بل هي “إعادة هندسة سياسية” لمنظومة التمثيل النيابي، تراعي:
• التوازن بين عدد السكان وعدد النواب.
• التوزيع الجغرافي العادل.
• تمثيل المرأة بنسبة 50% من مقاعد القوائم، وهو إنجاز يُحسب للعملية التشريعية المصرية، حيث لم تصل دول كثيرة لهذه النسبة.
مثال توضيحي:
في دائرة بها 1.2 مليون نسمة، كانت مُمثلة بنائب واحد فقط في النظام الفردي.
والآن، وبعد التعديلات، تم ضم جزء منها إلى دائرة مجاورة أقل كثافة، ورفع التمثيل إلى نائبين لضمان عدالة الصوت الانتخابي.
التعديلات بالأرقام: توازن جديد في المقاعد والدوائرفي مجلس النواب:
إعادة توزيع مقاعد نظام القوائم إلى 4 دوائر:
دائرتان خصص لهما 40 مقعدًا (بدلًا من 42).
دائرتان خصص لهما 102 مقعد (بدلًا من 100).
زيادة تمثيل المرأة بنسبة 50% من مقاعد القائمة.
رفع التأمين المالي عند الترشح:
30 ألف جنيه للفردي.
120 ألف جنيه للقائمة (40 مقعدًا).
306 آلاف جنيه للقائمة (102 مقعدًا).
في مجلس الشيوخ:
تغيير توزيع مقاعد القوائم:
دائرتان خصص لهما 13 مقعدًا (بدلًا من 15).
دائرتان خصص لهما 37 مقعدًا (بدلًا من 35).
تعديل التأمين:
30 ألف جنيه للفردي.
39 ألف للقائمة (13 مقعدًا).
111 ألف للقائمة (37 مقعدًا).
نقل مقعدين من البحيرة والقليوبية إلى الفيوم وأسيوط لتحقيق التوازن
النظام القضائي شريك في نزاهة الانتخابات
أكد البرلمان أن كل صندوق انتخابي سيكون تحت إشراف عضو من أعضاء الهيئات القضائية، بما يضمن الشفافية الكاملة.
• منع أي تدخلات إدارية أو حزبية.
• تعزيز الثقة العامة في نتائج الانتخابات.
الترشح ليس للجميع… لماذا رفع التأمين؟
رفعت التعديلات قيمة التأمين للترشح من 10,000 إلى 30,000 جنيه للفردي، ومن 100,000 إلى 306,000 جنيه لبعض القوائم، والهدف واضح:
• تصفية الترشح الجاد فقط.
• الحد من الترشحات العشوائية التي تُربك الناخبين وتُهدر المال العام.
لكن هذا القرار قد يثير الجدل حول قدرة الشباب والأحزاب الصغيرة على المنافسة، وهو نقاش يجب أن يُستكمل داخل المجتمع المدني.
منطق سياسي لا هندسة رقمية
المشروع اعتمد على أكثر من مجرد “جدول توزيع مقاعد”، بل استند إلى:
• متوسط التمثيل النيابي (نائب لكل عدد محدد من السكان).
• مراعاة البنية الجغرافية والإدارية.
• عدم المساس بعدد الدوائر الفردية (143 دائرة)، بل تم تعديل هيكلها الداخلي فقط.
على سبيل المثال:
تم إلغاء دائرتين قديمتين كانت تمثلان مناطق اندمجت إداريًا، واستحداث دائرتين جديدتين بعد فصل وحدات محلية نمت سكانيًا، مثل ما حدث في الفيوم وأسيوط.
قراءة في العمق: هل نقترب من النموذج الأمثل؟
قال رئيس مجلس النواب إن النظم الانتخابية لا تُستورد ولا تُفرض، بل تُصاغ لتناسب المجتمع:
• النموذج المثالي ليس الأكثر دقة حسابية، بل الأكثر توافقًا مع الثقافة السياسية.
• العدالة لا تعني التساوي المطلق، بل التوازن الواقعي بين الحقوق والواجبات والفرص.
وهذا التوجه يعكس نضجًا تشريعيًا يُفضّل الاستقرار السياسي على التجريب المستمر.
خطوة محسوبة نحو استقرار تشريعي
أوضح المستشار إبراهيم الهنيدي، رئيس اللجنة التشريعية، أن هذه القوانين لم تُوضع لمجرد تعديل شكلي، بل جاءت استجابة لتحولات ديموغرافية حقيقية فرضت ضرورة إعادة التوزيع، لتحقيق عدالة تمثيلية تُراعي السكان والناخبين وتضمن التوازن بين الكثافة السكانية وعدد النواب. و هذه التعديلات تُشكّل لحظة فاصلة في تاريخ التشريع الانتخابي المصري، ليس فقط من حيث البنود، بل من حيث الفكر السياسي الذي يقف خلفها.
و هي محاولة لضبط إيقاع الحياة السياسية مع إيقاع المجتمع الحقيقي.
وإذا أحسنت الدولة تنفيذ هذه التعديلات في أجواء نزيهة، ستكون قد قطعت شوطًا كبيرًا في ترسيخ ديمقراطية مصرية خالصة… وليست مستعارة. و التعديلات الجديدة تعكس وعيًا عميقًا بأهمية صياغة نظام انتخابي يتماشى مع الدستور ومتطلبات الواقع، ويعيد ضبط ميزان العدالة التمثيلية وفق معايير مدروسة تعكس احتياجات المجتمع المصري.
ويعتبر صندوق الاقتراع هو بوابة المستقبل… فلنحسن عبوره
ما شهدناه من تعديلات في قوانين الانتخابات ليس مجرد تحريك لأرقام أو إعادة توزيع لمقاعد، بل هو إعادة تعريف لمعنى التمثيل النيابي في مصر الحديثة
إنها رسالة واضحة تقول إن الديمقراطية ليست حدثًا موسميًا، بل بُنية مستمرة تحتاج إلى صيانة وتشذيب كلما تغيّر الواقع وتطورت الدولة
وقد أحسن البرلمان قراءة هذه اللحظة، فصاغ قانونًا يعكس وجدان المجتمع المصري وتطوره الطبيعي نحو مشاركة أوسع وتمثيل أعدل
لكن الأهم من القانون… هو الإنسان.
فالتشريعات مهما بلغت من دقة، تظل حبرًا على ورق إن لم تجد مواطنًا يُدرك قيمتها، ويشارك بإرادة حرة، ويصوّت بضمير حي.
إن صندوق الاقتراع ليس مجرد صندوق خشبي أو بلاستيكي، بل هو تجسيد حي لمستقبل نرسمه بأيدينا ، وها نحن أمام لحظة جديدة تقول لكل مصري:
“مستقبلك السياسي ليس صدفة… بل قرارك في يوم انتخاب.”