تكنولوجياالصحة والجمالتحقيقات و تقارير

يحدث الان – الكرسي الدولي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا: منصة حوار عالمي من أجل مستقبل أكثر إنسانية

الكرسي الدولي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا: منصة حوار عالمي من أجل مستقبل أكثر إنسانية

بقلم: ا. د. وائل بدوى

في عالم يتسارع فيه التقدم العلمي والتكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، تبرز الحاجة الملحة إلى تعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية في مختلف مجالات الحياة، خصوصًا في ميدان العلوم الحيوية والطب. من هذا المنطلق، جاء تأسيس الكرسي الدولي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا كمبادرة علمية وأخلاقية عالمية تهدف إلى بناء جسور التعاون والحوار بين الثقافات حول القضايا الأخلاقية المعقدة التي تطرحها التطورات العلمية، خصوصًا في الطب، البيولوجيا، والتكنولوجيا الحيوية.

الكرسي الدولي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا: منصة حوار عالمي من أجل مستقبل أكثر إنسانية
الكرسي الدولي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا: منصة حوار عالمي من أجل مستقبل أكثر إنسانية

منصة فكرية وأكاديمية تتجاوز الحدود

يمثل الكرسي الدولي لأخلاقيات البيولوجيا، الذي تأسس بدعم من منظمة اليونسكو، نموذجًا رائدًا في دمج القيم الإنسانية مع البحث العلمي. فهو لا يقتصر على كونه مؤسسة أكاديمية، بل يُعدّ منصة عالمية تضم خبراء من مختلف الخلفيات الثقافية والدينية والفكرية لمناقشة التحديات الأخلاقية المتزايدة التي تفرضها التقنيات الجديدة، مثل التعديل الجيني، الذكاء الاصطناعي في الطب، وأبحاث الخلايا الجذعية.

وقد تمكن الكرسي، على مدى سنوات، من تعزيز التعليم والتدريب في أخلاقيات البيولوجيا، وتطوير أدوات معرفية متعددة اللغات والثقافات تُمكّن الباحثين والطلاب وصناع القرار من فهم التفاعلات الدقيقة بين العلم والمجتمع والقيم.

تجسيد للتنوع الثقافي في أخلاقيات العلم

ما يميز هذا الكرسي هو التزامه بنهج تعددي يُراعي الخصوصيات الثقافية والدينية، دون المساس بالمعايير الأخلاقية العالمية. فهو يُروّج لفكرة أن الأخلاق ليست ترفًا فلسفيًا أو امتيازًا حضاريًا، بل ضرورة عالمية لضمان استخدام العلوم لمصلحة الإنسان، لا ضده. ويعمل الكرسي على تبني مقاربة شمولية، تُشرك دول الجنوب وتُعطي أولوية لأصوات طالما همّشها الخطاب العلمي السائد.

في هذا السياق، تم إطلاق “إعلان أخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان” عام 2005 كأحد أهم إنجازات اليونسكو، والذي يُعد إطارًا مرجعيًا عالميًا يُرسي مبادئ الاحترام، الكرامة، العدالة، والتضامن في التعامل مع التحديات البيولوجية والطبية.

دور حيوي في بناء سياسات علمية عادلة

لا يكتفي الكرسي بمناقشة النظريات، بل يسعى إلى التأثير الفعلي في صنع السياسات العامة من خلال التعاون مع الحكومات، الجامعات، ومنظمات المجتمع المدني. كما ينظم مؤتمرات دولية، ويدعم مشاريع بحثية تتناول قضايا مثل: الملكية الفكرية للمواد البيولوجية، أخلاقيات الأبحاث السريرية، والتمييز الجيني.

ويشجع الكرسي التفاعل مع قضايا راهنة مثل جائحة كوفيد-19، حيث ساهم في إنتاج أدلة إرشادية حول التوزيع العادل للقاحات، وأخلاقيات جمع البيانات الطبية.

تحديات المستقبل: من التنظير إلى التفعيل

رغم النجاحات، يواجه الكرسي تحديات عدة، أبرزها اتساع الفجوة الرقمية بين الدول، وهيمنة بعض القوى على أجندة البحث العلمي، فضلًا عن صعوبة التوفيق بين المعايير الأخلاقية الكونية والتقاليد المحلية. وهنا تبرز أهمية مضاعفة الجهود لنشر التعليم الأخلاقي في المدارس والجامعات، ودعم البحث المتعدد التخصصات الذي يربط بين الفلسفة، القانون، الطب، والعلوم الاجتماعية.

فعاليات المؤتمر الدولي: مناقشات غنية وتوصيات مؤثرة

انطلقت أعمال المؤتمر الدولي للكرسي العالمي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا في العاشر من ديسمبر 2024، وسط حضور دولي رفيع المستوى، شمل ممثلين عن منظمة اليونسكو، ومؤسسات أكاديمية وطبية من أوروبا، آسيا، وإفريقيا. استهل المؤتمر بجلسة افتتاحية رسمية، ألقيت فيها كلمات ترحيبية عبّرت عن أهمية الأخلاقيات في رسم مستقبل آمن ومتوازن للتقدم العلمي.

في الجلسة العلمية الأولى، تناول المشاركون موضوع “أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب”، حيث ناقش باحثون من ألمانيا ومصر وكندا التحديات التي تطرحها تطبيقات الذكاء الاصطناعي على خصوصية المريض، اتخاذ القرار الطبي، وإمكانية التمييز الخوارزمي. وشدد المتحدثون على ضرورة أن ترافق التكنولوجيا المعاصرة تشريعات أخلاقية تضمن استخدامها لخدمة الإنسان، لا لتهميشه أو المساس بحرياته.

تلت ذلك ورشة عمل تفاعلية نُظمت بالتعاون بين جامعة عين شمس  وجامعة برلين، حيث تم استعراض تجارب تعليم أخلاقيات البيولوجيا في كليات الطب، مع التركيز على أهمية دمج الطلاب في تحليل الحالات الواقعية التي تواجه الأطباء في ممارساتهم اليومية.

في الجلسه التانيه، ناقش الحاضرون قضايا محورية مثل “حقوق الإنسان وأخلاقيات البحث الطبي”، حيث تم التطرق إلى إشكاليات الموافقة المستنيرة، العدالة في توزيع الخدمات الصحية، والمسؤولية الاجتماعية للباحثين. وقد أثرت الجلسة بمشاركة ممثلين عن مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، إلى جانب أكاديميين من فرنسا ودول إفريقية.

وركزت الورشة التفاعلية التالية على “بناء سياسات بيولوجية عادلة وشاملة”، حيث تم تقديم نماذج ناجحة لتجارب تشاركية بين الحكومات والمجتمعات في تصميم بروتوكولات البحث الحيوي. وأكد الحضور أن السياسة العلمية الناجحة هي تلك التي تُبنى على استماع حقيقي للأصوات المهمشة، وعلى مبادئ الشفافية والتنوع الثقافي.

ومن أبرز المحطات الملهمة في المؤتمر كانت جلسة عرض أبحاث طلبة الدكتوراه، الذين استعرضوا دراساتهم حول أخلاقيات البيولوجيا في السياق العربي والإفريقي، منوهين إلى أهمية الانطلاق من الخصوصيات المحلية لبناء فهم أخلاقي عالمي مشترك.

واختتم المؤتمر بجلسة ختامية استعرضت أبرز التوصيات، والتي شملت: ضرورة تعزيز تدريس أخلاقيات العلم في المناهج الجامعية، دعم الشراكات بين الدول في مجال السياسات الأخلاقية، تطوير منصات تدريبية مفتوحة ومتعددة اللغات، وإنشاء شبكة دولية لتبادل الخبرات في هذا المجال.

بهذه الروح، أثبت المؤتمر الدولي أن أخلاقيات البيولوجيا ليست مجالًا نخبوياً أو فلسفيًا مجردًا، بل ركيزة أساسية في مستقبل البشرية، يتطلب تضافرًا عالميًا لصياغة عالم أكثر عدلًا، إنسانية، وتوازنًا بين العقل والقيم.

ختامًا: العلم بغير أخلاق طريق إلى الهاوية

لا شك أن العلوم الحديثة تحمل وعودًا عظيمة للبشرية، لكنها تحمل أيضًا مخاطر كامنة. ومن دون بوصلة أخلاقية، قد تنحرف هذه العلوم نحو خدمة مصالح ضيقة أو تهديد كرامة الإنسان. إن الكرسي الدولي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا يمثل اليوم حصنًا منيعًا في وجه هذا الانحراف، وصوتًا عالميًا يذكرنا بأن التقدم الحقيقي لا يُقاس فقط بما نعرفه، بل بكيفية استخدام هذا المعرفة لصالح الجميع، لا لفئة دون أخرى.

خاتمة تحريرية – عن قسم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى

في زمن تتسابق فيه التكنولوجيا مع الزمن، وتُعيد فيه الاكتشافات العلمية تشكيل حياتنا كل يوم، تظل أخلاقيات البيولوجيا هي الحصن الأخير الذي يضمن بقاء الإنسان في مركز المعادلة. وما المؤتمر الدولي الذي نظمه الكرسي العالمي لليونسكو في أخلاقيات البيولوجيا إلا تأكيد على أن العلم من دون أخلاق قد يكون سيفًا ذا حدّين، وأن السبيل إلى مستقبل آمن لا يكون إلا بحوار مفتوح، تشاركي، ومتعدد الثقافات.

إننا، فيقسم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، نؤمن بأهمية تسليط الضوء على مثل هذه المبادرات العالمية التي لا تكتفي بمناقشة الواقع، بل تعمل على تغييره عبر الفكر، التعاون، وتبادل المعرفة. سنواصل مواكبة هذه الحوارات الحيوية، وفتح صفحاتنا أمام كل من يسعى لصنع مستقبل أكثر عدلاً وتوازنًا بين الإنسان والعلم.

عن هيئة التحرير – قسم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى

تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى