شات جي بي ٥ هو أسوأ من مجرد تحديث تقني : هو تحوّل المستخدم من صاحب قرار إلى متلقٍ

شات جي بي ٥ هو أسوأ من مجرد تحديث تقني : هو تحوّل المستخدم من صاحب قرار إلى متلقٍ
كتب ا د وائل بدوى
إطلاق ChatGPT-5 لم يكن مجرد خطوة تقنية متقدمة، بل كان أيضًا خطوة تجارية وسياسية محسوبة من جانب الشركة المطوّرة، وهو ما يجعل محو النماذج السابقة مثل GPT-4 وGPT-4o موضع جدل كبير. فالقرار لم يأتِ بمعزل عن سياق المنافسة الشرسة في سوق الذكاء الاصطناعي، حيث تسعى الشركات الكبرى لفرض أحدث منتجاتها بوصفها “المعيار الوحيد” المتاح، حتى وإن كان ذلك على حساب تنوع الخيارات أمام المستخدمين.
كثير من المستخدمين عبّروا عن إحباطهم بعد إطلاق ChatGPT-5 ومحو النماذج السابقة، معتبرين أن الخطوة ليست تحديثًا لصالحهم بقدر ما هي قرار إجباري يقيّد خياراتهم. بالنسبة لهم، التطوير الحقيقي لا يكون بإلغاء ما اعتادوا عليه، بل بإتاحة الجديد إلى جانب القديم، ليختار كل شخص ما يناسبه.
هناك من يرى أن GPT-5 رغم قوته، فقد فقد شيئًا من مرونته وروحه مقارنة بالإصدارات السابقة التي كانوا يعرفونها ويتقنون التعامل معها. آخرون اشتكوا من أن إزالة النماذج السابقة أضر بأعمالهم أو أبحاثهم، لأنهم فقدوا أدوات كانوا يثقون في أدائها وثباتها.
شعور “الإقصاء” هذا جعل بعض المستخدمين يتحدثون عن انعدام الشفافية، وأن الشركة تعاملت مع جمهورها وكأنهم مجرّد مستهلكين لمنتج إجباري، لا شركاء في تطويره. ورغم اعترافهم بأن GPT-5 قد يكون أكثر دقة وأسرع في بعض المهام، إلا أنهم يعتبرون أن حرية الاختيار أهم من أي تحسين تقني.
بالنسبة لهم، المسألة لم تعد مجرد ذكاء اصطناعي يجيب على الأسئلة، بل أصبحت قضية مبدأ: هل يحق للمستخدم أن يحتفظ بحق الوصول إلى الأدوات التي تعلّم عليها وأتقن استخدامها، أم أن التطوير يجب أن يفرض من أعلى دون نقاش؟
المشكلة الأولى أن النسخ السابقة كانت قد كوّنت لدى المستخدمين “ذاكرة تعامل” وفهمًا لطريقة تفكيرها وحدودها، وهو ما كان يتيح لهم استغلالها بكفاءة في مجالات البحث، البرمجة، التعليم، وحتى الكتابة الإبداعية. مع إزالة هذه النماذج، وجد المستخدم نفسه أمام نسخة جديدة أكثر تعقيدًا، قد تكون أذكى في بعض الجوانب، لكنها أقل مرونة في أخرى، وأحيانًا أكثر “تيبسًا” أو مقيدة في أسلوب الرد.
المشكلة الثانية أن هذه الخطوة ألغت خيار المقارنة أو العودة للنموذج السابق إذا لم يكن الجديد مناسبًا، وكأن الشركة قالت للمستخدمين: “إما أن تتأقلموا أو تبتعدوا.” هذا الإلغاء الإجباري جعل التجربة أشبه بالانتقال القسري، لا التطوير الاختياري، مما أثار شعورًا بفقدان السيطرة على الأداة التي كان الكثيرون يعتبرونها جزءًا من سير عملهم اليومي.
هناك أيضًا الجانب النفسي؛ المستخدمون كانوا يرتبطون ببعض النماذج وكأنها “شخصيات” افتراضية يعرفونها جيدًا، مع طابعها الخاص في الرد والتفاعل. محو هذه النماذج يعني محو جزء من تاريخ العلاقة بين الإنسان والآلة، وهو أمر لا يمكن تعويضه بمجرد إضافة خصائص جديدة.
من الناحية التجارية، إلغاء النماذج السابقة يحقق للشركة هدفين أساسيين: أولًا، دفع المستخدمين للاعتماد الكامل على الإصدار الجديد، وبالتالي زيادة فرص الاشتراك في الخطط المدفوعة التي توفر الوصول الأوسع إلى GPT-5 وأوضاعه المتقدمة. ثانيًا، خفض تكلفة تشغيل وصيانة البنية التحتية الخاصة بالنماذج القديمة، إذ أن الاحتفاظ بها يتطلب موارد إضافية، في حين أن حذفها يتيح إعادة توجيه هذه الموارد لدعم النموذج الأحدث وتحسين أرباح الشركة.
لكن في العمق، يحمل القرار بعدًا سياسيًا يتعلق بالتحكم في بيئة المعلومات والذكاء الاصطناعي. فكلما قلّت النماذج المتاحة، زادت قدرة الجهة المطوّرة على ضبط سلوك الذكاء الاصطناعي، وتحديد الإطار الفكري والقيمي الذي يتحرك فيه. هذه السيطرة تعني أن المستخدم لم يعد قادرًا على اختيار نموذج أكثر مرونة أو أقل تقيدًا بالمعايير الجديدة، مما يفتح بابًا لفرض رؤى معينة أو تضييق مساحات الحوار في بعض المواضيع.
إضافة إلى ذلك، فإن احتكار النسخة الأحدث يمنح الشركة نفوذًا غير مسبوق على المستويين الأكاديمي والاقتصادي. الباحثون الذين كانوا يعتمدون على نماذج قديمة لأغراض المقارنة أو لأداء مهام معينة أصبحوا مجبرين على تعديل مناهجهم البحثية وفق قدرات GPT-5، وهو ما قد يعيد تشكيل نتائج الأبحاث واتجاهاتها. أما في السوق، فالشركات الصغيرة والمطورون المستقلون فقدوا تنوع الأدوات الذي كان يتيح لهم تخصيص حلول بأسعار وأداء يتناسب مع احتياجاتهم.
النتيجة أن بعض المستخدمين يرون ChatGPT-5 ليس تقدمًا، بل خطوة للخلف في حرية الاختيار وتجربة المستخدم، حتى وإن كان أكثر تطورًا من الناحية التقنية. فالتطور الحقيقي لا يكون بفرض الجديد على حساب القديم، بل بإتاحة المجال للتعايش بين الأجيال المختلفة من التقنية، حتى يختار كل مستخدم ما يناسبه.
في النهاية، ما يجعل هذه الخطوة أسوأ من مجرد تحديث تقني هو أنها تحوّل المستخدم من صاحب قرار إلى متلقٍ لما تفرضه الشركة، وتعيد رسم العلاقة بين الإنسان والأداة الذكية على أسس احتكارية. قد يكون GPT-5 أقوى وأذكى، لكن الذكاء الحقيقي في إدارة التقنية هو في تمكين المستخدمين من الاختيار، لا إجبارهم على السير في مسار واحد.