مذكرة وزارة الحرب الأمريكية حول تبنّي الذكاء الاصطناعي… وتأثيرها على مصر والعالم العربي

مذكرة وزارة الحرب الأمريكية حول تبنّي الذكاء الاصطناعي… وتأثيرها على مصر والعالم العربي
كتب ا د وائل بدوى
في التاسع من ديسمبر 2025، أصدر وزير الحرب الأمريكي مذكرة رسمية موجّهة إلى جميع العاملين بالوزارة، يعلن فيها اعتماد منصة GenAI.mil — وهي منصة ذكاء اصطناعي توليدي آمنة، تعتمد على تقنيات Google Gemini — كأداة رسمية إلزامية في العمل العسكري والإداري داخل وزارة الحرب الأمريكية. هذه المذكرة التي قد تبدو تقنية في ظاهرها، تحمل في جوهرها تحوّلًا استراتيجيًا عالميًا، يرسم ملامح سباق جديد: سباق تسلّح تكنولوجي قائم على الذكاء الاصطناعي.
هذه الوثيقة ليست مجرد إعلان استخدام أداة جديدة؛ إنها إعلان دخول مرحلة جديدة في تاريخ الجيوش، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والأمن القومي.
وإذا كانت الولايات المتحدة — أكبر قوة عسكرية في العالم — قد قررت أن يكون الذكاء الاصطناعي جزءًا من “الإيقاع القتالي اليومي”، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو:
ماذا يعني هذا لمصر؟ وللعالم العربي؟ وللنظام الدولي بأكمله؟
أولًا: قراءة في المذكرة… ماذا تقول واشنطن؟
تتضمن المذكرة عدة رسائل استراتيجية يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
1. الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا من العقيدة القتالية
الوزارة تطلب من كل عسكري ومدني ومتعامل مع الجيش:
- استخدام الذكاء الاصطناعي يوميًا
- إدخاله في القرارات
- اعتباره “عضوًا في الفريق” لا مجرد أداة
2. الانتقال من الجيوش التقليدية إلى جيوش المعرفة
تعلن المذكرة أن:
- الجيوش التي لا تتبنّى الذكاء الاصطناعي ستتخلّف
- العمل الورقي والبيروقراطي “إهدار لوقت الحرب”
- الإنتاجية العسكرية تعتمد على السرعة والدقة والتحليل التنبؤي
3. الأداة الأولى: Google Gemini المصرّح له بالتعامل مع بيانات حساسة
وهذا يعني:
- دمج الذكاء الاصطناعي مباشرة في عمليات الأمن القومي
- استخدامه في التحليل والكتابة والتخطيط والتنبؤ
4. هدف المذكرة واضح: التفوق على الخصوم
الوزير يكتب صراحة:
“بإتقانكم لهذه الأداة، سوف نتفوق على خصومنا.”
هذا خطاب تعبئة استراتيجية، وليس مجرد تحديث تقني.
ثانيًا: لماذا هذه الوثيقة خطيرة؟
لأنها تشير إلى تحوّل نوعي في طبيعة القوة العسكرية العالمية.
ولأنها تُدخل الذكاء الاصطناعي في ثلاثة مستويات:
1. مستوى القرار العسكري
الذكاء الاصطناعي سيشارك في:
- تقييم المخاطر
- بناء السيناريوهات
- دعم القرارات العسكرية والسياسية
2. مستوى الجندي الفرد
الجندي الأمريكي سيستخدم الذكاء الاصطناعي كما يستخدم سلاحه أو جهاز اتصاله.
3. مستوى المؤسسة الدفاعية بالكامل
المذكرات، التحليل، اللوجستيات، الأمن السيبراني، العمليات…
كلها ستدار بمعاونة الذكاء الاصطناعي.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة تنتقل فعليًا إلى جيش نصفه بشري ونصفه رقمي.
ثالثًا: التأثير على مصر والعالم العربي
1. الأمن القومي أصبح مرتبطًا بالذكاء الاصطناعي
حين تعتمد واشنطن الذكاء الاصطناعي كجزء من منظومة الحرب والإدارة، فهذا يعني أن:
- أي دولة لا تطوّر تقنيات ذكاء اصطناعي سيادية ستعاني تبعية كبيرة
- الحروب المستقبلية يمكن أن تُحسم عبر الخوارزميات
- القدرات الدفاعية التقليدية تصبح غير كافية
التحدي الأكبر لمصر والدول العربية:
هل نملك منصات ذكاء اصطناعي محلية؟
هل نملك بيانات وطنية مؤمنة؟
هل نملك كوادر مدربة؟
إن أمن الدول لن يُحمى بالجنود فقط، بل بالمهندسين، وعلماء البيانات، ومراكز الحوسبة الضخمة.
2. سباق تسلح عالمي جديد… خارج الأسلحة التقليدية
بعد 2025، بدأت الولايات المتحدة، الصين، روسيا، الهند، أوروبا… سباقًا محمومًا لبناء:
- نماذج ذكاء اصطناعي عسكرية
- منصات تحليل استخباراتي
- أنظمة قيادة وتحكم تعتمد على التنبؤ
- أدوات حرب سيبرانية مدعومة بالذكاء الاصطناعي
السؤال:
هل الجيوش العربية مستعدة لهذا السباق؟
مصر تمتلك مؤسسات دفاعية قوية، لكن المجال التكنولوجي هو ساحة الحرب القادمة، ويحتاج إلى:
- استثمار ضخم في الذكاء الاصطناعي الدفاعي
- شراكات مع الجامعات
- مراكز بيانات سيادية
- تطوير خوارزميات وطنية
3. التأثير على سوق العمل والتعليم
إذا أصبح الجندي الأمريكي يستخدم الذكاء الاصطناعي يوميًا، فكيف بالمهندس والطبيب والموظف؟
ستتغير:
- مهن الإعلام
- البحث العلمي
- التعليم
- الإدارة
- الهندسة
- الأمن السيبراني
ومصر بحاجة إلى:
- مناهج دراسية جديدة
- تدريب حكومي شامل
- إعادة تأهيل الإدارات والوزارات
الدول التي لا تتكيف ستجد نفسها خارج الاقتصاد العالمي الجديد.
4. تأثير على الإعلام: عصر الحرب النفسية الرقمية
استخدام الذكاء الاصطناعي في الجيش يعني بالضرورة استخدامه في:
- الإعلام العسكري
- الحرب النفسية
- التضليل المعلوماتي
- توجيه الرأي العام دوليًا
وبهذا يصبح الإعلام العربي معرضًا لموجة جديدة من:
- المحتوى المزيف المتطور
- الهجمات المعلوماتية
- الحملات المبرمجة
مما يفرض بناء منصات تحقق عربية وذكاء اصطناعي إعلامي مضاد.
رابعًا: ماذا يجب أن تفعل مصر والعالم العربي؟
1. إنشاء “مركز ذكاء اصطناعي سيادي” لكل دولة
مركز مشابه لما أعلنته السعودية والإمارات…
لكن بمكوّنات عسكرية ومدنية واقتصادية.
2. تطوير نموذج ذكاء اصطناعي عربي يعتمد على البيانات المحلية
بدل الاعتماد الكامل على ChatGPT أو Gemini.
3. سنّ قوانين لحماية البيانات السيادية
لمنع تسرب بيانات المواطنين والقطاعات الحيوية.
4. إدخال الذكاء الاصطناعي في التعليم العسكري والجامعي
كما فعلت أمريكا.
5. بناء تحالف عربي للذكاء الاصطناعي
على غرار الاتحاد الأوروبي.
6. الاستثمار في الحوسبة عالية الأداء (Supercomputing)
لأن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى موارد ضخمة لا يمكن تأجيرها من الخارج.
خامسًا: رؤية مستقبلية… أين سنكون خلال 10 سنوات؟
مع نهاية 2030–2035، سيكون المشهد كالتالي:
في أمريكا:
- جندي يستخدم AI مثل هاتفه
- منظومات قتالية ذاتية
- قرارات حرب مبنية على تحليل خوارزمي
- إدارة حكومية شبه آلية
في العالم العربي… حسب قدرتنا على اللحاق:
- دول ستصبح قادة إقليميين في الذكاء الاصطناعي
- ودول أخرى ستصبح مستهلكة فقط
- ودول قد تُهمّش بالكامل في النظام الدولي الجديد
إنها لحظة حاسمة تشبه:
- دخول الكهرباء
- دخول الحواسيب
- دخول الإنترنت
لكنها أكبر… وأسرع… وأخطر.
خاتمة: العالم يتغير… فهل نتغير معه؟
مذكرة وزير الحرب الأمريكي ليست وثيقة تقنية؛ إنها إعلان تدشين مرحلة ما بعد الإنسان البيروقراطي، وولادة الإنسان-الآلة كجزء من المؤسسة العسكرية.
وإذا لم تتحرك مصر والعالم العربي بسرعة — عبر خطط واضحة، واستثمارات حقيقية، وشراكات استراتيجية — فسنتحوّل من صانعي مستقبل إلى متلقّي أوامر.
إن الذكاء الاصطناعي ليس خيارًا…
إنه مصير.
والسؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه اليوم:
هل نريد أن نصنعه بأيدينا؟
أم ننتظر حتى يُفرض علينا؟

