أخلاقيات العلم في زمن البرمجيات الكبرى: من قاعات مكتبة الإسكندرية إلى خريطة طريق عربية

أخلاقيات العلم في زمن البرمجيات الكبرى: من قاعات مكتبة الإسكندرية إلى خريطة طريق عربية
كتب ا د وائل بدوى
في يوم صيفي عادي، بدا بهو مكتبة الإسكندرية أقلّ شبهاً بمتحف للكتب وأكثر شبهاً بغرفة قيادة لسفينة تبحث عن مسار آمن في بحر متلاطم من الذكاء الاصطناعي والتحرير الجيني والبيانات الضخمة. وجوه من أجيال ومدارس علمية شتّى التقت حول سؤال واحد: كيف نضمن ألّا يسبق الخيالُ الأخلاقيَّاتِ بينما تتسارع المختبرات؟
لم يكن اللقاء مجرد احتفال أكاديمي؛ فقد انطلق على خلفية مرور عقدين على تأسيس مجلس لأخلاقيات البحث العلمي، وهو عمرٌ كافٍ ليرى أعضاؤه كيف تحوّل النقاش من “هل نحتاج إلى أخلاقيات؟” إلى “كيف نُشغّلها عمليًا؟”. ومن هنا تشكّل خطّان متوازيان في جلسات اليوم: خطٌّ يستعيد الذاكرة المؤسسية، وخطٌّ يدفع النظر إلى الأمام حيث تختبر التقنياتُ حدودَ الإنسان والمجتمع والمعرفة.
لماذا يعود الحديث عن الأخلاقيات الآن؟
لأن الذكاء الاصطناعي خرج من معامل الحوسبة إلى هواتفنا ومنصاتنا العمومية؛ ولأن التعديل الجيني لم يعد قصة خيال علمي بل خيارًا بحثيًا ذا تكلفة يمكن تحملها؛ ولأن تدفق البيانات والثقافة على الشبكات صار يغيّر التقدير الأخلاقي نفسه: من المسؤول؟ الباحث؟ الخوارزمية؟ أم النظام الاجتماعي الذي يتيح أو يمنع ويكافئ أو يعاقب؟
هنا اكتسبت الإسكندرية معنى رمزيًا. فالمكان الذي ارتبط قديمًا بمكتبة تحفظ المعرفة، صار اليوم يستضيف نقاشًا حول “كيفية تداولها”: من يملك البيانات؟ كيف تُحفظ كرامة المشاركين؟ وأين يقف الخط الفاصل بين الابتكار والتهوّر؟
خريطة الملتقى: أربع بوابات لأسئلة واحدة
1) منجز المؤسسة وذاكرة العشرين عامًا
الجلسة الأولى لم تكن “تاريخية” بالمعنى الاحتفالي، بل أقرب إلى مراجعة ميدانية: ما الذي نجح في وضع قواعد لاختبارات البشر، للخلايا الجذعية، للبنوك الحيوية، وللنشر المسؤول؟ وبدل الاكتفاء بقوائم قرارات، طُرحت فكرة تحويل هذه الخبرة إلى “موسوعة أخلاقيات” عربية مفتوحة تُحدَّث دوريًا، وتضم نماذج بروتوكولات ومقاييس شفافية وتقارير التزام يمكن للباحثين تبنّيها مباشرة.
2) العلوم الاجتماعية: الأخلاق حين تصبح سياسة عامة
جلسة ثانية نقلت النقاش من المعمل إلى المجتمع. تَقدَّم باحثو السكان والاقتصاد والاجتماع بمقاربات تُعيد تعريف الأثر: ليس فقط “المنفعة/الضرر”، بل “عدالة الوصول” و“قابلية التطبيق” في بيئات هشة. ظهرت مفاهيم مثل السيولة المعرفية والتزويج التطبيقي: كيف نضمن أن لا تتحول أدوات الذكاء الاصطناعي إلى تراتبيات جديدة تُقصي الفقراء أو تُعمّق الانحيازات؟ هنا برزت توصية بتضمين “تحليل عدم المساواة” في أي مشروع علمي ممول من المال العام.
3) الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات: أخلاقيات تعمل «On»
تحت هذا العنوان الناشف، قفزت القاعة إلى قلب المعركة الدائرة حول الخوارزميات. طُرحت ثلاثة مسارات عملية:
- الشفافية التشغيلية: نشر وصف مختصر للنماذج المستخدمة وأُطر التقييم والقيود المعروفة.
- حماية المعطيات الحساسة: قواعد “التقليل من البيانات” افتراضيًا، وتفعيل الاختبارات المسبقة لتحيزات النماذج قبل الإنتاج.
- المساءلة المشتركة: أن يكون لكل نظام ذكي “مالك أخلاقي” واضح داخل المؤسسة، يُوقّع على بيان أثر ويُراجع دوريًا.
وفي تقاطع الذكاء الاصطناعي بالطب والبيولوجيا، طُرح سؤال التوازن بين الابتكار والمسؤولية: كيف نسرّع التشخيص والدواء دون أن نصنع أوبئةً من الانتهاكات؟ الاقتراح الذي حظي بتأييد واسع: “سلالم نضج أخلاقي” تشبه سلالم نضج التكنولوجيا (TRL)، تُصنَّف بها المشاريع من مستوى تجريبي إلى سريري مع اشتراطات أخلاقية متصاعدة.
4) الثقافة والمعرفة: من “ملكية” العلم إلى “مواطنة” العلم
حين انتقلت الجلسات إلى الثقافة، تبدّد الوهم القديم بأن الأخلاقيات شأن المختبر فقط. استُعيدت ثنائية “المعبد/المعمل” كصورة لعلاقة المجتمع بالعلم: احترام، لكن أيضًا سؤال ومحاسبة. لذلك دعت الجلسة إلى:
- اتصال علمي يشرح المخاطر بقدر ما يحتفي بالإنجاز، بعيدًا عن لغة التسويق.
- مشاركة عامة مبكرة في السياسات، عبر منصات حوار ومجالس مواطنين تُستشار في قضايا مثل تحرير الخط الجنيني أو استخدام المراقبة الذكية.
- صون التنوع الثقافي في زمن خوارزميات المحتوى، لأن تنميط الذوق والمعنى هو أيضًا قضية أخلاقية.
دروس اليوم الواحد
- الأخلاقيات ليست كودًا ملحقًا: هي جزء من تصميم البحث، تُدرَّج بوضوح، وتُختبر كما تُختبر الفرضيات.
- المساءلة المؤسسية أهم من النوايا الفردية: المطلوب هياكل ولجان فعّالة وتقارير أثر قابلة للتدقيق، لا بيانات إنشائية.
- التعليم هو خط الدفاع الأول: إدماج مساقات أخلاقيات تطبيقية في كليات العلوم والهندسة والطب والآداب على السواء، مع أنشطة محاكاة وحالات دراسية محلية.
- التعاون بين التخصصات ضرورة وجودية: علم اجتماع البيانات لا يقل أهمية عن علم البيانات نفسه؛ وفلسفة التقنية ليست ترفًا حين نتحدث عن تعديل الأجنّة.
توصيات عملية قابلة للتنفيذ
- إطلاق “مؤشر الامتثال الأخلاقي” للمشروعات البحثية في الجامعات والمراكز، يُعلن سنويًا ويُرفق ببيانات مفتوحة.
- إنشاء سجل وطني للدراسات عالية الحساسية (تحرير جيني، بيانات صحية ضخمة، أنظمة تعرّف حيوي)، يُراجع أخلاقيًا قبل التمويل وبعده.
- اعتماد سياسة “الشرح الإلزامي” للخوارزميات العامة التي تؤثر على الخدمات أو الحقوق، مع نشر تقارير انحياز وأداء موجّهة للمواطن.
- إطلاق برامج اتصال علمي ثنائية اللغة (عربية/إنجليزية) تستهدف الإعلام والمدارس والمجتمع المدني، وتُغذّيها قصص نجاح وإخفاق حقيقية.
- تمويل بحوث “الأثر الاجتماعي للتقنية” كمسار مستقل داخل منح العلوم والهندسة، لا كملاحق صغيرة.
ما الذي يجعل هذا الملتقى مختلفًا؟
ليس التكدس اللافت للصور الجماعية، بل الشعور بأن النقاش انتقل من “ماذا يجب أن يكون؟” إلى “من يفعل ماذا ومتى؟”. تفاصيل التنظيم التي تَظهر في لقطات السلالم والأروقة تعكس شيئًا أبعد: شبكة من مجالس متخصصة (علوم اجتماعية، اتصالات، ثقافة ومعرفة) تتعامل مع الأخلاقيات كحقل تطبيقي له أدوات وقياسات، لا كفقرة أخيرة في تقرير.
نحو عقدٍ عربي للأخلاقيات التطبيقية
إذا التزمت المؤسسات بما اتُّفق عليه ضمنًا: الشفافية، المشاركة، العدالة، والمساءلة، يمكن تحويل هذا الزخم إلى “عقد عربي للأخلاقيات التطبيقية” يربط العواصم ببوابة معرفة مشتركة، ومعايير قياس، وبرامج تدريب، ومختبرات سياسات تشتغل على ملفات الذكاء الاصطناعي والتحرير الجيني والبيانات العمومية. عندها فقط يصبح شعار “العلم من أجل المجتمع” قابلًا للقياس لا للاقتباس.
ومن ابرز أسماء المشاركين في ملتقى “أخلاقيات العلوم والثقافة في عالم متغير” – مكتبة الإسكندرية 4 أغسطس 2025
1.
أ.د. أحمد عبد الله زايـد
مدير مكتبة الإسكندرية، وأستاذ علم الاجتماع، يشغل أيضًا منصب مقرر مجلس العلوم الاجتماعية والإنسانية والسكان بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا. له إسهامات في دراسات التحولات المجتمعية، والسياسات الثقافية، وقضايا التنمية المستدامة.
2.
أ.د. أحمد جبر
المشرف على قطاع المجالس النوعية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا. يمتلك خبرة طويلة في إدارة المشروعات البحثية، وصياغة السياسات العلمية، وربط البحث العلمي باحتياجات المجتمع.
أ.د. مجدي شحاتة
مقرر مجلس أخلاقيات البحث العلمي بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وأستاذ بكلية العلوم – جامعة عين شمس. متخصص في علوم الحياة والتكنولوجيا الحيوية، وله إسهامات في وضع الأطر الأخلاقية للبحث العلمي في مصر.
4.
أ.د. أحمد الشريني
أستاذ نظم وشبكات الاتصالات بجامعة القاهرة، ومقرر مجلس بحوث الاتصالات بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا. من أبرز خبراء الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر.
.
أ.د. شعبان الأمير
أستاذ بكلية الآثار – جامعة الفيوم، وعميد المعهد التكنولوجي العالي للسياحة والفنادق بالمنيا، ومقرر مجلس بحوث الثقافة والمعرفة بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا. يجمع بين خبرة البحث الأثري وإدارة مؤسسات التعليم السياحي.
ا. د. سعيد جويلي
أمين عام مجلس أخلاقيات البحث العلمي، وأستاذ القانون الدولي، ومستشار رئيس جامعة الزقازيق. له خبرة في التشريعات البحثية، والقوانين المنظمة لحماية حقوق المشاركين في الدراسات.
ا. د. هانى سليم
يشغل منصب رئيس قسم الجلدية وأمراض الذكورة بالمركز القومي للبحوث الطبية المتخصصة (NHTMRI). وهو مدرب معتمد في أخلاقيات أبحاث الصحة الدولية من كلية الطب بجامعة ميريلاند في الولايات المتحدة، كما يشارك في مبادرة تدريب أخلاقيات الأبحاث لمنطقة الشرق الأوسط (MERETI) التابعة للجامعة نفسها. ويتولى أيضًا تنسيق الشبكة المصرية للجان أخلاقيات البحوث (ENREC)، ويشغل منصب نائب رئيس لجنة المراجعة المؤسسية بالمركز القومي لأبحاث الكبد وأمراض المناطق الحارة. بالإضافة إلى ذلك، يرأس لجنة المراجعة المؤسسية بالجمعية المصرية لتطوير الرعاية الصحية (ESHD).
ا. د. وفاء عبد العال
أستاذ الباثولوجي ومدير وحدة التجارب الإكلينيكية بالمركز القومي للبحوث. متخصصة في أخلاقيات الخلايا الجذعية والبنوك الحيوية، وتعمل على ضمان الالتزام بالمعايير الدولية.
ا. د. بهاء درويش
أستاذ الفلسفة بجامعة المنيا، متخصص في فلسفة العلوم والتكنولوجيا، وله أبحاث حول الضوابط الأخلاقية للبحث العلمي في عصر التكنولوجيا الرقمية.
9.
ا. د. سارة عبد الجابر
أستاذ مساعد بقسم طب النانو – معهد علوم وتكنولوجيا النانو، جامعة كفر الشيخ. تقدم أبحاثًا حول تطبيقات النانو الطبية وأخلاقياتها.
ا. د. محمد الخزامي عزيز
أستاذ نظم المعلومات الجغرافية بجامعة الفيوم، وعضو مجلس البحوث الاجتماعية والإنسانية والسكان. يركز على أخلاقيات البحث في العلوم الاجتماعية وتطبيقات نظم المعلومات.
11.
ا. د. وليد رشاد زكي
أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وأمين مجلس البحوث الاجتماعية والإنسانية والسكان. مهتم بأخلاقيات البحث في السياقات الاجتماعية.
12.
ا. د. أيمن زهري
خبير السكان ودراسات الهجرة، وعضو مجلس البحوث الاجتماعية والإنسانية والسكان. يتناول في أبحاثه أثر البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي على الدراسات السكانية.
13.
ا. د. وائل بدوي
أستاذ الذكاء الاصطناعي بالجامعة المصرية، وعضو مجلس بحوث الاتصالات بأكاديمية البحث العلمي. له إسهامات في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات.
14.
ا. د. محمد خليـف
استشاري وخبير التحول الرقمي، وعضو مجلس بحوث الاتصالات. متخصص في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وسياسات التحول الرقمي.
15.
ا. د. إيمان مصطفى
أستاذ نظم المعلومات بجامعة زويل، وعضو مجلس بحوث الاتصالات. تهتم بدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي، مع مراعاة التوازن بين الابتكار والمسؤولية.
أ.د. شريف حسين قنديل
أستاذ علوم المواد بمعهد الدراسات العليا والبحوث – جامعة الإسكندرية، وعضو مجلس بحوث الثقافة والمعرفة. يتناول في أبحاثه العلاقة بين القيم العلمية والتطور التكنولوجي.
أ.د. طارق يحيى سليمان قابيل
أستاذ بقسم التقنية الحيوية بكلية العلوم – جامعة القاهرة، وأمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة. متخصص في أخلاقيات التحرير الجيني والتطبيقات الحيوية.
من الإسكندرية خرجت هذه المرة رسالة بسيطة وصارمة: لا مستقبل للعلم بلا أخلاقيات تعمل. والسؤال لم يعد هل نستطيع؟ بل هل نستحقّ أن نفعل ما نستطيع؟ الإجابة تُبنى اليوم على منصات الجدّ: لوائح واضحة، مؤسسات مسؤولة، ومواطنون شركاء. وما بدا في الصور “لقاءً” يمكن أن يصبح، إن استُكمل، نقطة تحوّل في علاقة المنطقة بالعلم: معرفةٌ جريئة، وتقنيةٌ ذكية، وأخلاقٌ لا تتأخر عن الموعد.