يوم السكوت الرقمي – حين يصمت العالم ليفكر من جديد. في إطار مبادره ا د منى الحديدي “يوم بلا شاشات”

يوم السكوت الرقمي – حين يصمت العالم ليفكر من جديد. في إطار مبادره ا د منى الحديدي “يوم بلا شاشات”
كتب ا. د. وائل بدوى
في زمنٍ يتكثّف فيه الضجيج داخل الشاشات أكثر مما يتكثّف في الشوارع، أصبح الإنسان محاصرًا بفيضٍ لا ينتهي من الإشعارات، والتنبيهات، والخبر العاجل الذي لا يتوقف، والآراء المتلاحقة التي تُلقَى علينا بأسرع مما نستطيع أن نفكّر فيه. وبين هذا السيل الجارف، نشأت الحاجة إلى ما يمكن أن نسمّيه “يوم السكوت الرقمي”؛ يوم يتعمّد فيه الإنسان إغلاق النوافذ الإلكترونية التي تطلّ على عوالم الآخرين، ليعيد فتح نافذته الخاصة على ذاته.
يوم السكوت الرقمي ليس انسحابًا من العالم، بل عودة إليه.
فالانغماس الرقمي، حين يخرج عن السيطرة، لا يتحوّل فقط إلى عادة؛ بل يتحوّل إلى مستنقع فكري تتعطّل فيه البصيرة، وتتداخل الحقائق مع الانطباعات، ويصبح العقل مثل أرضٍ طينية تتثاقل فيها الخطى. ومع كثرة الإغراق في المحتوى السريع والمواقف اللحظية، يتحوّل هذا المستنقع شيئًا فشيئًا إلى وحلة تحجب القدرة على التفكير العميق، وتبتلع الوقت بلا رحمة.
هذا اليوم يأتي ليردّ للعقل حقه في الصفاء، وللقلب حقه في السكينة.
في “يوم السكوت الرقمي” يتوقّف الإنسان عن الردّ، والنشر، والتصفّح، ويختار بدلًا من ذلك أن ينصت إلى الأسئلة التي يغلق عليها طوال العام:
– ماذا يحدث في داخلي؟
– ماذا أريد أن أغيّر؟
– وما الذي فقدته دون أن أنتبه حين كنت مطاردًا بالشاشات؟
إنه يوم يعلّمنا أن الضوضاء الرقمية لا تُسكِت فقط الصوت الخارجي، بل تُسكِت الصوت الداخلي أيضًا. فعندما نتوقف عن ملء الفراغ بالمحتوى المستورد من الآخرين، نكتشف أن الفراغ ليس فراغًا كما كنا نظن، بل هو مساحة لم نسمح لأنفسنا أن نراها.
يوم السكوت الرقمي ليس دعوة لقطع التكنولوجيا، بل دعوة لإعادة توازن العلاقة معها.
التقنية ليست خصمًا، بل أداة. ولكن حين تتحوّل الأداة إلى بيئة تُغرقنا، يصبح الإصلاح واجبًا لا بديلًا. وفي هذا اليوم نُعيد ضبط الإيقاع؛ نختار ما يناسبنا، نرفض ما يسرق وقتنا، ونستعيد ما فقدناه من حضور ووعي.
كما يمثل هذا اليوم فرصة لإعادة بناء العلاقات الإنسانية على أرض غير ملوّثة بالافتراضات والمقارنات. فعندما نصمت رقميًا، نتذكر أن التواصل الأعمق يتم عبر النظر في عيون الناس، عبر جلسة هادئة، أو حديث صادق بلا وسطاء.
وفي النهاية، يمكن القول إن “يوم السكوت الرقمي” ليس يومًا نعيشه… بل هو مهارة نتعلمها:
أن نعرف متى نتكلم، ومتى نصمت، ومتى نسمح للضجيج أن يمرّ دون أن يترك أثرًا في أرواحنا.
هو لحظة وعي نسترد بها ذاتنا من بين ثنايا التطبيقات، وصحوة ننتزع بها عقولنا من الانغماس الرقمي الذي ينتج المستنقع الفكري والوحلة التي تطمس المعنى.
ومن هنا تنبع مبادره ا د منى الحديدي “يوم بلا شاشات” ٢٥/٩/٢٠٢٥
إنه يومٌ نختار فيه الحياة كما ينبغي أن تُعاش… لا كما تُعرض علينا عبر الشاشات.



